الجديدة كمدينة اسمنتية
الجديدة كمدينة اسمنتية

مدينتي تحولت إلى مدينة اسمنتية تغيب فيها كل شروط الترويح عن النفس، مدينتي  تفتقد إلى كل مظاهر تصالح الانسان مع الطبيعة ، فإذا ما تتبعنا التطور العمراني الذي عرفته المدينة في السنوات الأخيرة ، نجد أنها تحولت الى كتل اسمنتية فالأحياء الجديدة (حي السلام ، النجد ، السعادة....) لا تتوفر ولو على حديقة  واحدة كمتنفس للمواطن،  فادا كانت المعايير الدولية نحو 10 إلى 15 مترا مربعا من المساحات الخضراء لكل مواطن، فانه في مدينتي "مزكان" السياحية حصة كل مواطن هي أقل من متر مربع لكل ساكن ، وحتى وإن وجدت هذه المساحات ، فإنها توجد في الأماكن حديقتين (تركة الاستعمار)، أما المناطق الشعبية فأصبحت تحت رحمة الاسمنت الذي يزحف على الأخضر واليابس...

 أمام غياب هذه المساحات الخضراء التي تشكل المتنفس الطبيعي الوحيد أمام المواطنين، تلجأ الساكنة إلى الضواحي التي لم يصل اليها الزحف الاسمنتي ....في مدينتي الجديدة تصمم مجموعة من الفضاءات الخضراء  لكي  يقصدها الرجال والنساء والأطفال، تختفي اليوم بين عشية وضحاها لتصبح عمارات شاهقة وكأن سماسرة العقارات لا يشعبون من التهام كل جميل في هذه المدينة، أمام صمت السلطات وتواطئها في بعض الاحيان.

 هنا نتساءل عن الإجراءات والتدابير التي اتخذتها المصالح المختصة من أجل الاهتمام والحفاظ على المساحات الخضراء والحد من الترامي عليها؟لماذا كل هذا الاسمنت في مدينتي؟

مدينتي الجديدة تعرف بشكل يومي إنجاز مشاريع سكنية اقتصادية تفتقر في مجملها إلى الحد الأدنى من التجهيزات مع هشاشة في البنية التحتية، مناطق سكنية إسمنتية مفتقرة للحد الأدنى لمقومات الحياة المدنية....مدينتي تعاني من تآكل المساحات الخضراء إثر اجتياح البناء من كل الجهات، وأصبحت المدينة التي تغنى بها ليوطي يوما أشبه بسجن إسمنتي، مدينة بلا هواء أو مدينة سياحية بلا هوية، كما يصفها أهلها بعدما ضاقت بهم "مساحة السماء والأشجار"...مدينتي تعرت من كل شيء...ضائعة تبحث في المزابل عن نقطة اخضرار واحدة، عن ضوء غائب، مات ذات خميس اسود فوق جثث أهلها، مكبلة، يبصق في عيونها المقدم والشرطي و"المخازني" وكل قُواد المدينة،أهلها اليوم ، أراهم يترحّمون على شجر كان يربو على اماكن ما في المدينة ، وعلى هواء نظيف أصبح اليوم وكأنه "رفاهية".

نعم.. أعترف أمام الملأ، وأمام زملائي ورفاقي وكل أصدقائي أن مدينتي لم تكن يوما أجمل مدن البلاد ، لكنها كانت أكثرهن نخوة وتأنقا، كانت كفراشة تسير على الأرض ونظرها معلق بالسماء، متصل بأحلام وردية،  اليوم وقد تعرت مدينتي.. رأيت في عيونها الحزينة صور السماسرة وقطاع الأرزاق واللصوص.. رأيت في عيونها المشانق تنصب بدل الأزهار والورود، رأيت في عيونها أسلاك وإسمنت وحزن وضياع ودخان المزابل بدل هواء نقي وساحات خضراء.. رأيت في عيونها الحدائق العمومية تتحول إلى حدائق رماد غارقة في الإسفلت جراء زحف "العمران" والمقاهي غير المدروس، والتهام الاسمنت لكل المساحات الخضراء.. وأما ما تبقى منها، فبقى عرضة للإهمال ووكرا للمنحرفين والمدمنين... وقُطاع الأزقة والشوارع والأرزاق.

 

زحفت الهوامش إلى المدينة، أغرت سماسرة المدينة كل المحرومين بشقق مكيفة رخيصة، فبصموا ودفعوا وسكنوا وأقاموا... ولكن... كيف عاشوا وكيف استمروا ؟ تكدّست الأجسام فوق الأجسام، تراجعت البساتين والأشجار.. تراجعات غير منصفة، بل وفاضحة لمصلحة الزحف "العمراني" .وُقِّعت الصفقات، وما بعدها كان أعظم في القضاء على ما بقي من مساحات خضراء، هي الآن مساحات فارغة، قاحلة طبعاً، لأن الشجر أُعدم منذ زمن ، في مدينتي  اليوم، حكايات لم تعرفها المدينة وأهلها أبدا، لم يحصل أن روى أب لولد أو جدة لحفيد، أو معلم لتلميذ، قصة وأْد العشب والشجر.. لصالح الاسمنت والحجر... أو حكاية حديقة أرادوها مقاهي !!

علمونا في المدرسة  ، ان غرس الشجر من أعظم الأعمال ..؟ علمونا في الجامعة المحافظة على الأرض وزراعتها لأنها ثروة عظيمة؟ لكن لم  يتعلموا في أحزابهم ان المحافظة على الأشجار والحدائق العامة وعدم الاعتداء عليها بقطعها وقلعها،هي عنوان حضارة الأمم ؟

أي حفاظ على المدينة وجمالها هذا الذي علمونا إياه ونحن نرى أن كل ما حولنا يقول بالعكس، المساحات الخضراء تتحول الى مدراس خاصة ،الخروقات بالمدينة تتوالى تباعا تكريسا لاستهتار متواصل بكرامة المواطن و تثبيتا لعدم المبالاة بحقوقه... المساحات الخضراء تحولت إلى منشآت عمرانية..ومباني و مصانع وعمارات في ظل صمتنا وصمت المسؤولين. وكلٌّ.. يتم بكل الطرق ، إلا الطرق المباشرة الواضحة والصريحة كما قيل لنا في الصغر أو كما اوهمونا.

فالصمت إذ امتدّ أكثر .. خلق بيننا أحزانا رمادية.. والاحزان الرمادية كما تعلمون تخنق الأطفال.. ونحن لا نريد لأطفالنا أن يختنقوا.. لانريد الخطر لأطفالنا نريد الأمن والامان، لا نريد لأطفالنا ان يعيشوا ما عشناه، نريد لهم مستقبلا أكثر امان..وهواء أكثر نقاء... نريد مساحة خضراء لمدينتنا.

وتحتاج مدينتي الجديدة كذلك الامان وهي منذ أعوام مضت لم يعرف قلبها طعم البسمة .. شوارعها وساحاتها العامة لم تعرف غير اكوام الغبار.. وأحلام الأطفال طالت انتظارا لاستنشاق هواء نقي ..ألم تعلموهم أن "الجو الجميل واخضرار الحدائق واستنشاق الهواء النقي هام جدا لنمو الرئة ووظائفها".. أم أن "الرياح العاتية" وحدها من ستكنّس الغبارعن مقاعد الحدائق ... وتُرجع الإخضرار الى ساحات مدينتي ...

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة