الجامعة المغربية و غياب الهندسة البيداغوجية.. جامعة شعيب الدكالي نموذجا
الجامعة المغربية و غياب الهندسة البيداغوجية.. جامعة شعيب الدكالي نموذجا

 قررت جامعة شعيب الدكالي مؤخرا في شخص رئيسها السيد بوغالب التواصل مع الرأي العام الجماهيري عبر ندوة صحفية نظمت بمقر الرئاسة، أدلى من خلالها السيد الرئيس بتصريح صحفي لجريدة الجديدة 24، اعتبر فيه ارتفاع معدل تسجيل الطلبة الجدد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية إنجازا مميزا هذه السنة على خلاف السنوات الماضية التي شهدت قلاقل واضطرابات بسبب إقصاء بعض الطلبة من عملية التسجيل، بالرغم من أنه لم يوضح ذلك.

ألم يكن ذلك راجعاً لسياسة رئيس و عمداء  فضلوا اللجوء إلى عتبات، و آجال، وما شابه ذلك من طرق ملتوية للحفاظ على الطاقة الاستيعابية للمؤسسات دون مواجهة المشكل في عمقه البيداغوجي والبنيوي؟ ألم يطغ هاجس الطاقة الاستيعابية للمؤسسات على بعض اجتماعات المجالس المسيّرة دون الاهتمام بمصائر الطلبة الذين قد يطالهم التهميش والإقصاء؟ أليست هذه المؤسسات ذات استقطاب مفتوح؟ وهل يتذكر السيد الرئيس تلك الأقلام الحرة التي نددت سابقا بالطرق المعتمدة في إقصاء الطلبة، والتي عبرت عن مواقفها في مقالات نشرت على صفحات الجرائد الالكترونية المحلية؟

 إن تصريح السيد الرئيس يقر ضمنيا بأن هناك خروقات ارتكبت في حق الطلبة في السنوات الماضية، و ذلك لأنه يقارن هدوء هذه السنة باضطرابات السنة الماضية التي نشبت على إثر منع مجموعة من الطلبة من حقهم في التسجيل في رحاب الكلية،   لكننا نندهش لمّا يعتبر السيد الرئيس تسجيل الطلبة بدون قلاقل إنجازا يستحق التصوير و النشر في مقطع فيديو على صفحة جريدة إلكترونية؟

 تكمن المفارقة الغريبة في خطاب الرئيس المسؤول عن المؤسسات الجامعية فيما قاله بالحرف الواحد في مقطع هذا الفيديو: " لقد فتحت الجامعة الباب على مصرعيه في وجه حاملي الباكالوريا"، هل هذا هو المغزى البيداغوجي من مفهوم الاستقطاب المفتوح أيها السيد الرئيس؟ هل لديكم تصور متكامل عن كيفية تسجيل الطلبة في مؤسسات جامعية بتخصصات متعددة؟ و نستسمح السيد الرئيس بالسؤال: هل هذه بمثابة "فْنادق" أو "كْوارى" مفتوحة في وجه كل من يتوفر على شهادة باكالوريا تثبت أحقيته في التسجيل؟

إذا كان الجواب بنعم، وهذا ما حدث بالذات في مجموعة من الشعب الأدبية والعلمية، إذ تم تسجيل الطلبة بشكل عشوائي عبثي لا يتضمن أي هندسة بيداغوجية على الإطلاق، و هنا نتساءل لماذا لا تلتجأ المؤسسات الجامعية إلى وضع الطالب المناسب في التخصص المناسب، كما تحاول بعض الشعب القيام به بشكل منفرد، و بنتائج جد محدودة؟

إن هذا الفتح المبين لمؤسسة جامعية من طرف السيد الرئيس هو فتح على المجهول، لا تحركه سوى هواجس أمنية خوفا من الطلبة واستماتتهم في المطالبة بحقوقهم المشروعة في التسجيل بإحدى المؤسسات الجامعية، لكنها تجسد غياب رؤية بيداغوجية واضحة حول كيفية توجيه الطلبة الجدد نحو الشعب والتخصصات التي تتوفر عليها الكليات. هل أضحت المقاربة الأمنية، كما جاءت على لسان السيد بوغالب، مقاربة بيداغوجية قائمة الذات؟ لماذا تعتمد الجامعة التسجيل العشوائي  دون توجيه الطلبة أو هندسة التخصصات وفقا لمتطلباتها البيداغوجية و اللوجستيكية؟ هل يملك السيد الرئيس تصورا منسجما ومتكاملا لاحتضان حملة الباكالوريا؟ و هل يتوفر السيد الرئيس أو الوزارة الوصية على آليات لتتبع هؤلاء الخرجين و مراقبة إدماجهم في سوق الشغل؟ متى كان التسجيل في مؤسسة جامعية يعد من إنجازات الرؤساء والعمداء؟ 

زميلي الأستاذ المحترم، إن تدبير ملف التعليم لا يقاس بنجاحنا في تسجيل كم هائل من الطلبة، حيث قد ينتهي بنا المطاف إلى إقحام أعداد تفوق القدرة الاستيعابية للمؤسسة، مما يتسبب في الاكتظاظ وتراجع جودة التحصيل، كما هو حاصل الآن في شعب بعينها، و لكن تسجيل الطلبة هو في حد ذاته رسم لمسار حياة مهنية يجب أخذه على محمل الجد، وليس على محمل الاستهتار كما ورد في عبارة " فتح باب الجامعة على مصرعيه"، إن التسجيل الجامعي لهو تدبير لمصير أجيال من الكفاءات التي ينبغي إعدادها وتكوينها تكوينا مناسبا وفعالا، يساهم في تنمية  الاقتصاد الوطني و النهوض بالمجتمع، إذ لا يجب أبدا أن نختزل مفهوم "الاستقطاب المفتوح" في أرقام و شهادات فقط، فلنأخذ مثال طالب حامل لشهادة الباكالوريا في التعليم الأصيل ، و راكم معارف في تخصصه، لكن حين يضع قدمه بمتاهة الآداب والعلوم الإنسانية، قد يضع اسمه على أي لائحة همس له بها أحد الأصدقاء، فينخرط بقدرة قادر في شعبة اللغة الانجليزية أو السوسيولوجيا؟ هذا يعتبر عبثا في تسجيل الطلبة، إذ ما جدوى ذلك التراكم الذي حققه الطالب خلال مسار دراسته الثانوية؟ أليس من الأجدر الاستثمار في هذا التراكم بتوجيهه وتسجيله في التخصص المناسب لتكوينه؟ 

إن "فتح الباب على مصرعيه" في وجه الطلبة ببنيات استقبال لا تتسع لهذه الأعداد، و غياب اللوجستيك الكافي، لهو فهم خاطئ لقانون الاستقطاب المفتوح، و اختزال عبثي صار حقاً أريد به باطل، إذ كان من الأجدر تحديد المسارات بوضوح للطلبة الراغبين في ولوج الجامعة، و ممارسة التوجيه هي عملية هيكلية بالأساس، تنبثق من تصور مؤسساتي واضح عن التكوينات التي تقدمها الجامعة؟ 

وهذا الكلام لا يعني أننا عدميّون سودويون و تيئيسيون ، ننتقد من أجل إحباط مجهودات الرؤساء والعمداء، بل نحاول من خلال تقيمنا للأوضاع الراهنة طرح بعض التصورات التي قد تشكل أرضية للتفكير في الحل، منها ما هو سهل التطبيق على المستوى المحلي، ومنها ما يتطلب رسم سياسات تعليمية كبرى (ماكروية ) تخرج القطاع من نفقه المسدود: 

لماذا لا تقوم المؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح التابعة للجامعة بإجراء اختبارات توجيهية على مستوى المؤسسة لوضع الطلبة في التخصص المناسب، و يمكن بلورة هذه الاختبارات بشراكة بين الشعب، أو تقوم بها كل شعبة على حِدة، و هكذا فلن تجد شعبة الفلسفة مثلا نفسها تستقبل أعدادا ضعيفة من الطلبة، بينما تكتظ شعبة السوسيولوجيا بأعداد، جلها قامت بتسجيل نفسها في هذا التخصص بالسماع عنه فقط . لماذا لا يتم مثلا تعميم المقابلة التوجيهية، فتصبح نتائجها ملزمة لجميع الشعب؟ إذ من تفَوق في مقابلة في تخصص ما، يلتحق بذلك التخصص، و من لم يتفوق في أي تخصص، تلتجأ إدارة المؤسسة إلى إلحاقه بالتخصص حسب معدلاته في امتحانات الباكالوريا، و بتوصية إلى رؤساء الشعب بأن هؤلاء الطلبة هم في حاجة ماسة إلى تقوية خاصة دون زملائهم.

 إن عملية التوجيه، و ما قد تكلفه من مجهودات، لا مناص منها لمحاربة العبث الأكادمي الذي تعاني منه الجامعة اليوم، حيث لا يمكن لطالب راكم معارف تقنية، أن  يفر من تخصصه ليلتحق بشعبة التاريخ أو الدراسات الإسلامية، ليبدأ من الصفر، و يُسمح له بالتسجيل في إطار الشعار البوغالبي "فتح الباب على مصرعيه"، فإذا به  يبيض في سنته الأولى، وربما يفرخ "كتاكيت"، إذا سمح له رئيس المؤسسة بذلك عن طريق آلية / آفة الاستعطاف؟

يا أستاذي الفاضل، ما هي النتائج و ما هي المُخرجات لعملية "فتح الباب على مصرعيه"؟ أين هي الجودة و أين هو الكيف؟ ماذا أعددت لهذه الأفواج ؟ وماذا ستنتظر منها مستقبلا؟ هل تم تنسيق بينكم وبين الإدارة المغربية والقطاع الخاص؟ هل  أبرمتم شراكات في إطار انفتاحكم على المحيط السوسيو- اقتصادي، لكي تضمنوا لهذه التخصصات الجامعية البقاء و الفعالية؟

عوض أن نهلل لفتح مبين للجامعة، كان من الأجدر أن تشتغل الجامعة والوزارة الوصية على إيجاد حلول لمعضلة المُخرجَات و النتائج. نحن اليوم، نكدّ و نجتهد مع الطلبة داخل الفصول وخارجها، لتكوينهم في تخصصات معينة، لكن بعد نيلهم الإجازة، يلتحق جلهم بجيوش المعطلين، و قد تجد بعضهم باعة متجولين، وآخرين في وظائف لا علاقة لها بالسنوات التي قضوها في رحاب الكلية، فتصاب بخيبة أمل حول هذا المصير المجهول للطالب الجامعي. ماذا ابتدعتم لهذا الأستاذ الذي تعب و كدّ ليزرع بذور المعرفة في أذهان هذه الأجيال من الطلبة؟ و ما جدوى قضاء ثلاث سنوات أو أكثر من حياة طالب في جامعة لتنتهي به رحلة المعرفة في خاتمة المطاف إلى سائق حافلة أو بائع في دكان ؟

نحن نعلم أن الطاقة الاستيعابية لسوق الشغل جد محدودة في المغرب، لذا نتساءل عن الاستراتجيات التي تم وضعها لاستقبال الأعداد التي تكلم عنها السيد رئيس الجامعة ؟ أين المٌخرجات؟ هل هناك خلية مركزية أو جهوية تقوم بتتبع الطالب حتى يلج سوق الشغل، و تتأكد من نجاعة التكوين وملاءمته مع المتطلبات الحالية والمستقبلية لهذه السوق ؟ و هل يحتاج الطالب لتكوين إضافي للحصول على وظيفة؟ هل تتوفر الدولة على وسطاء معتمدين يقومون بالتنسيق بين قطاع التعليم وسوق الشغل، ويزودون الإدارة المغربية ببنك معلومات و أرقام، حتى تتمكن الجامعة بتقييم ذاتها، و تكوين الأعداد المطلوبة في سوق الشغل؟ هل فعلا تقوم الجامعة المغربية على لسان رؤساءها بتكوين الطلبة وفقا لاحتياجات سوق الشغل؟ أين هي الأرقام والوظائف؟ إذا سألت طالبا في شعبة التاريخ: "ماذا تريد أن تصبح؟" سيجيبك بالجواب التقليدي الذي يجيبك به طالب في كل شعبة في تلك الكلية: " أريد أن أصبح أستاذا!"، وحين تغادر الكلية لكي تركب حافلة أو تجلس في مقهى، يناديك المستخدم بلقب "أستاذ"، و هكذا فالمجتمع المغربي في مخياله الشعبي، هو مجتمع أستاذي بامتياز؟ بالله عليكم هل هذا هو التوجيه البنيوي لقطاع يعاني أعطابا منذ الاستقلال؟

و حتى إذا ألقينا نظرة على بعض التخصصات دون ذكر شعب بعينها، هل قامت هذه الشعب بتحيين معارفها ومقارباتها وفقا للتحولات المعرفية على الصعيد العالمي، والتنافس الجاري حول اقتصاديات المعرفة، والخبرات العابرة للقارات، و وفقا للنماذج السائدة؟ و هل تستطيع فعلا منافسة نظيراتها إقليميا ودوليا؟

ما يتضح من واقع الأمر هو غياب هندسة بيداغوجية بالجامعة المغربية، وغياب رؤية شمولية تخطط للمدى المتوسط والبعيد لإيجاد حلول هيكلية للقطاع، فحتى كتابة هذه السطور، يتضح أن الحكومات التي تعاقبت على الاستوزار و الاسترزاق بهذا البلد، لم تأت للإدارة المغربية بهدف التغيير والابتكار و بلورة المشاريع الكبرى، بل بهدف تصريف الأعمال الإدارية وتقاضي أجور خيالية تحت شعار " كولو العام زين".

و ماهي النتيجة الآن؟ نحن نمارس في القطاع، و نشاهد يوميا مآسي طلبة خرّجي معاهد الصحافة، وكليات أخرى، ومعاهد تقنية، يتجولون بين أركان الإدارات بدون وظيفة،  و يأملون في إنقاذ أنفسهم من الضياع بالاختباء في حلم استكمال التكوين عن طريق التسجيل في شعبة من الشعب الأخرى، مثلا في شعبة الانجليزية بدعوى أنهم في حاجة إلى هذه اللغة ، لأنها مطلوبة في سوق الشغل، ثم أضف إلى هذه المأساة، مأساة التسجيل في الماستر، إذ أن معظم من يتقدم للتسجيل في سلك الماستر، لم يعثر على وظيفة تلائم مستواه التعليمي، فيقرر الاختباء بين جدران الجامعة في إطار استكمال التكوين ظنا منه أن الماستر سيرزقه بالوظيفة المهدوية التي ينتظرها، أو الوظيفة الغُودُوِيَة" نسبة إلى غُودُو ، لأنها قد لا تأتي حتى لو حصل على الدكتوراه!؟ إذن أين مكامن الخلل!؟ لا يعقل أن مواطنا أوروبيا  في غالب الأحيان يكتفي "بالباكالوريا أو ما يعادلها" ليلتحق بوظيفة تضمن له العيش الكريم، و يستكمل تكوينه في إطار متطلبات وظيفته، بينما يتيه المواطن المغربي بين الشهادات الجامعية في بحث عن وظيفة غٌودُوِيَة !؟

 

ذ. محمد معروف، أستاذ بجامعة شعيب الدكالي


 

 

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة