رغم الاستعمال القدحي
لعبارة "الشعبوية" لنعت الخصوم السياسيين، فإن هذه الممارسة و الخطاب
السياسي جديران بالدراسة و التحليل نظرا للأثر الكبير الذي أصبح لهما على الخريطة
السياسية للعالم و المغرب. سنقوم بتحليل هده الظاهرة انطلاقا من نماذج معاصرة و من
خلال تأطير نظري يساعدنا على فهم ما يجري و تقييمه من حيث الفعالية و النتائج.
مند القدم تحدث الفلاسفة، كأرسطو تمثيلا لا حصرا، عن التفاعل الأفقي
للسياسيين مع الشعب ونظًّر الكثير من الباحثين لهذه الممارسة و اعتبروها كبعد في
الثقافة السياسية[لاكلالو، 2005] قد يكون حاضرا في الإيديولوجيات سواء من اليمين
أو اليسار، وفي المجتمعات الديمقراطية أو السلطوية على السواء. قبل مباشرة تحليل الحالات التي اخترناها لهذا
الموضوع، نقدم بعض المقدمات حول الشعبوية و التي ستمثل أساسا للتحليل اللاحق:
-إن تنظيم العامة، الجمهور أو الجماعات في إطار تنظيم شعبوي يتوفر على لحمة
اجتماعية و سياسية قوية يعتمد في أساسه، كما وضح ذلك فرويد في كتابه علم نفس
الجماهير، على التماهي، أي وجود رابط عاطفي بين الإفراد، و قد يكون التماهي مع
الأب، أو موضوع للرغبة أو الحب أو أي تصور آخر. لكن ما يهمنا في هذا الموضوع هو
التماهي مع الأب/القائد و الذي يفترض تعظيما له كمثال بعيدا عن كل انتقاد، كما أن
هذا التماهي قد يتخذ شكلا أفقيا بين الأفراد أو عموديا بين الأفراد و القائد.
- ثمة ميكانيزمات خطابية تعزز هده اللحمة الاجتماعية و السياسية منها
التأكيد و التكرار و الشيوع. فتأكيد فكرة ما يدخلها عقول الجماهير، لكن تكرارها
يجعلها تسكن في لاشعور هذا الجمهور و تنتشر في شكل شحنة عاطفية بين الأفراد كما
ينتشر الوباء في المجتمع[ المقارنة ليست قدحية]. يصبح تبعا لذلك الاعتقاد الإيماني
هو أساس الترابط و اللحمة في الجماعة المنظَمة، و ليس التحليل العقلاني.
- إن الشعبوية كخطاب تبسط الممارسة السياسية و ذلك بخلق تقاطب بين الجماعة
المنظمة أو الحزب السياسي باعتبارها ممثلا للشعب و لمطالبه في الحرية و العدل و
المساواة، مثلا، و النخب السياسية المهيمنة على الحكم و التي تمنع الشعب من الحصول
على هذه المطالب.
-إن الشعبوية تستفيد من الأزمات السياسية و الاقتصادية لضمان هيمنتها على
المشهد السياسي و الوصول إلى الحكم.
- إن الخطاب الشعبوي يعتمد في فعاليته على شحن دوال متعالية فارغة أو
عائمة، حسب تعبير لاكلو، بمعاني خاصة تتماشى و البعد السياسي الشعبوي الذي يتبناه.
سنقوم بجولة في أوروبا و أمريكا لدراسة حالات نجح فيها المد الشعبوي في الفوز
بالانتخابات و الصعود للسلطة ثم نرجع للمغرب لمقاربة تجربة حزب العدالة و التنمية
في الخمس سنوات الأخيرة. قام حزب بوديموس في اسبانيا بتحقيق المفاجأة سنة2015 بحصوله على أكثر من 20
بالمائة من أصوات الناخبين و حصل في الانتخابات المحلية و الجهوية على رئاسة العاصمة
مدريد ومدينة برشلونة. و قد استفاد حزب بوديموس من فشل الأحزاب التقليدية و خصوصا
الحزب الاشتراكي في تدبير أثار الأزمة الاقتصادية التي ضربت إسبانيا ابتداء من
2008 ووضع سياسات تقشفية. و يتشكل هذا الحزب من قيادات جامعية بنت خطابا مؤسسا على
نظريات مفكرين يساريين كزيزك و باديو و لاكلو. و كان معظمهم معجبين باشتراكية
القرن الواحد و العشرين كما يتم تطبيقها في فنزويلا و كوريا و الإكوادور. رغم أن
بوديموس قدمت مطالب راديكالية تمس جوهر الحكم في إسبانيا كرفضها لدستور 1976 و
الاتفاقيات التي مهدت للانتقال نحو الديمقراطية بعد حكم فرانكو، فإن مقترحاتها لحل
الأزمة الاقتصادية لم تحظ بدعم كبير و لم
يستطع الحزب تشكيل الحكومة في إطار تحالف مع باقي الأحزاب أو الفوز بأغلبية
في الانتخابات المعادة[يونيو 2016] . و
بعد أن استمر الفراغ السياسي في اسبانيا لمدة 314 يوما تم تشكيل حكومة يتزعمها
الحزب الشعبي.
إذا كان النموذج الشعبوي الأسباني ممثلا في حزب بوديموس مثالا معبرا عن
الظرفية التاريخية للصعود المفاجئ للتيارات الشعبوية ممثلة في الأزمة الاقتصادية و
البطالة و سياسات التقشف، فإنه يمثل في نفس الوقت انحصارا لهذا المد في إطار صراع سياسي
بين الأحزاب داخل قبة البرلمان. و قد شكلت فترة الفراغ السياسي ارتياحا لدى الشعب
باعتباره عقابا لكل السياسيين، حسب استطلاع أجرته مجلة نيوزويك، و لم تزد من شعبية
بوديموس حيث يبدو أن الغضب من السياسات التقشفية و من أزمة البطالة بقي منحصرا في
الفئة الأصلية الداعمة لبوديموس مند 2014 و التي تتقاسم معه بعض من توجهاته
اليسارية. كما نلاحظ أن الشعبوية في اسبانيا بنت خطابها على مطالب جزء منها
راديكالي و غير قابل للتحقيق و على تقديم حلول سهلة لمشاكل معقدة و بنيوية. لكن الأمر الإيجابي في
هذه التجربة هو تحفيزها للشباب سياسيا و دفع الممتنعين و العازفين عن السياسة إلى
المشاركة في الانتخابات، أحيانا بهدف معاقة الحزب الاشتراكي الذي كان في الحكم
أنداك.
ما حدث في اليونان يختلف شيئا ما عن الحالة الإسبانية حيث نجح حزب سريزا
اليساري الراديكالي في الوصول إلى الحكم بعد فوزه في الانتخابات و تحالفه مع حزب
يميني راديكالي شعبوي. و قد استغل حزب سيريزا الظروف السياسية و الاقتصادية الصعبة
التي كانت تعيشها اليونان و التي أخضعت هذا البلد لشروط أوروبية قاسية للإصلاح
الاقتصادي الهيكلي و التي مست القدرة الشرائية لليونانيين و فرضت عليهم إجراءات
تقشفية. لكن الملاحظ هو أن هذا الحزب لم يستطع الوفاء بالوعود التي قدمها للشعب
اليوناني أثناء حملاته الانتخابية، و التي نذكر منها محاربة النيو ليبرالية و وضع
حد للإجراءات التقشفية. المفارقة في الموضوع هو أن هذا الحزب رضخ للشروط الأوروبية
و يطبق حاليا الإجراءات التقشفية، مع بعض التعديلات الطفيفة.
تؤكد الحالة اليونانية و الإسبانية أن الشعبوية تستفيد من الأزمات لاختراق
المشهد السياسي و ذلك بتبني مطالب شعبية، لكنها تكون عاجزة عن الاستمرار نظرا
لسطحية الحلول التي تقترحها و أحيانا لا واقعيتها. فالمشاكل الاقتصادية كالتي
عاشتها اليونان و إسبانيا تحتاج لحلول هيكلية تمس جوهر النظام الاقتصادي و تحتاج
لوقت طويل لتحقيق نتائج ملموسة. تختلف الشعبوية في الحالتين السابقتين عن ما حدث
في الولايات المتحدة من حيث الانتماء و النوعية. فإذا كان بوديموس و سيريزا أحزابا
يسارية فإن الحزب الجمهوري ممثلا بترامب هو حزب يميني محافظ، و بالتالي فالشعبوية
اليسارية تختلف عن الشعبوية اليمينية من حيث أن الأولى مبنية على الشمول و لا تقصي
أية شريحة اجتماعية، في حين أن الثانية مبنية على إقصاء جزء من المجتمع و خصوصا الأقليات
و المهاجرين. فرونالد ترامب استغل خوف الأغلبية من البيض البروتستانت من زوال الامتيازات
التي استفادوا منها مند القدم بسبب تنامي الهجرة خصوصا من أمريكا اللاتينية. و قد
أحدث الخطاب الشعبوي ارتجاجا في المشهد السياسي الأمريكي و أحيا مخاوف البيض و
استغلها ترامب استغلالا سياسيا للوصول للبيت الأبيض.
يشترك الشعبويون إذا في استغلالهم للأزمات و الخوف من اللاأمن و من زوال
الامتيازات للحصول على دعم شعبي بتبنيهم لمطالب الشعب و الركوب عليها للوصول إلى
الحكم. كما يشتركون في النتائج من حيث أن الحلول التي يقدمونها تكون تبسيطية و لا
واقعية، فسيبدو، مثلا، المشهد غريبا جدا إذا ما حاول ترامب بناء سور عنصري بين
بلده و المكسيك، و سيكون صعبا على سيريزا في اليونان تبني سياسات غير تقشفية و
التخلي عن تبني سياسات إصلاحية هيكلية للاقتصاد.
عندما نحط الرحال بالمغرب، لا نجد فرقا إلا في المرجعيات. فحزب العدالة و
التنمية استفاد و استغل الربيع العربي و الحراك الذي أحدثته حركة 20 فبراير، و
استغل مخاوف النظام و آمال الجماهير في تحقيق تغيير إصلاحي حقيقي في نظام الحكم في
المغرب. و طيلة فترة رئاسته للحكومة ظل يمارس سياسة نيوليبرالية يدعمها خطاب شعبوي
يلطف من آثارها و يدعو إلى التعاطف مع الحزب بوسائل سنوضحها فيما يلي:
-يعتمد الخطاب الشعبوي للعدالة و التنمية في شخص بنكيران على قطبية تبسيطية
للمشهد السياسي و لعلاقات السلطة، حيث يقسم المجتمع إلى قسمين: الشعب الطاهر غير
الفاسد المؤمن بالله و الراضي بقضاء الله، و بالطبع فالعدالة و التنمية جزء من هذا
الشعب، و نخبة حاكمة متحكمة، فاسدة و تحارب من يمثل هذا الشعب، و قد رمز إليها
بنكيران بالتماسيح و العفاريت. يستوجب هذا الاستقطاب خلق عدو للشعب، يزيد من لحمة
هذا الشعب و بتعلقه بمن يدافع عنه. فإذا كانت النخبة المتحكمة هي من تحارب الشعب و
من يمثله، فهي عدو لهذا الشعب، و بالتالي يجب الوقوف بجانب بنكيران لأنه يمثل
الشعب و يحارِب و يحارَب من طرف هذا العدو.
-إن من يعتقد في صحة هذا التصور سواء من أعضاء الحزب أو المتعاطفين، لا
يمكنه أن يساءل سياسات الحكومة و لا أن يساءل القائد على أخطائه و لا أن ينتقده
بأي وجه لأن التماهي العاطفي يمنع أي انتقاد أو تحليل عقلاني لمجريات الأمور.
-رغم فشل الحكومة في تبني سياسة مختلفة عن السياسة النيوليبرالية للدولة،
فإن الحكومة تحاول كسب تعاطف الفئات الهشة و الفقيرة و ذوي الدخل المحدود بسن
قوانين تساعدهم على الاستفادة إما من زيادة في الأجر، أو مساعدات مالية للأرامل
الذين لهم أبناء في طور الدراسة.
- رغم الإجراءات اللاشعبية التي تبنتها الحكومة كالرفع من سن التقاعد، و
إلغاء دعم جل المواد الأساسية، و سن التعاقد في الوظيفة العمومية، فإن الخطاب
الشعبوي لرئيس الحكومة ينجح باستمرار في كسب تأييد أعضاء الحزب أولا و الذين يجدون
دائما تبريرات لتلك السياسات اللاشعبية، ثم تأييد فئة عريضة من الناس البسطاء و
العامة و ذلك من خلال استعمال ذكي لآليات خطابية تعتمد في أساسها على، أولا،
استعمال للغة الدارجة لتقليص المسافة مع المخاطب و لجعله يؤمن بأن مخاطبه ينتمي
للشعب و يصطف بجانبه ضد الآخر العدو الذي يحارب الشعب و يمنعه من تحقيق مطالبه.
ثانيا، استعمال الحس الديني و الثقافة الدينية المارابوتية لكسب تأييد الناس
اللامشروط. إن التحليل و لو السطحي البسيط لخطابات بنكيران يظهر هذا الاستعمال
اللغوي المتكرر للمخزون الثقافي الديني كوسيلة بلاغية في الإقناع. لا تخلو خطابات
بنكيران من هذا النوع من اللغة التي تخلق أثرا عاطفيا و أخلاقيا، فمثلا في أحد
خطاباته في الحملة الانتخابية، يحاول بنكيران امتصاص بعض العتاب و النقد الموجه
للحكومة و ذلك برد كل شيء لقضاء الله[رغم أن كل شيء بمشيئة الله، ينتقد البعض
تحديدا استعمال هذا الخطاب في السياسة]:"هذا جهدنا، شكون اللي غادي يحمينا
بعد الله سبحانه و تعالى"، "إلى اقتضى الأمر أنني نضحي بالعمر ديالي على
هذا الشعب، أنا قابل أو راضي بالقضاء ديال الله". تتعدد الأمثلة و لا يكاد
يخلو خطاب منها و الهدف من هذا الاستعمال هو كسب تأييد مبني على الاعتقاد الإيماني
بأن بنكيران يفعل كل ما في جهده، لكن اللوم كله يجب أن يوجه لأعداء هذا الشعب وهم
النخبة الفاسدة المتحكمة.
ثالثا، يؤكد بنكيران صراحة على أنه يمثل الشعب، و أنه هو و الشعب يواجهون
خصوما معروفين، كما يتبنى مطالب الشعب و يقدم نفسه كمدافع عنها. في أحد تدخلاته
بالبرلمان، يقول بنكيران بأن "الشعب يعرفني و يعرف خصومي..الشعب آمن
بي..انتهى الكلام"[2013]. و في مداخلة أخرى يقول بأن "الشعب المغربي
مولف الفقر، أوما كيتشكاش من الفقر، بل من الظلم". بهذا ينصب بنكيران نفسه
ممثلا للشعب في مواجهة الظلم، وضد التحكم و التشويش على تجربته في الحكومة، و
بالتالي فإن الاعتقاد في بنكيران كقائد هو واقع لدى الكثير من الناس.
رابعا، هناك بعد إيديولوجي في الخطاب الشعبوي لبنكيران يمكن تفكيكه باعتماد
مفهوم الدوال العائمة أو الفارغة التي أشرنا إليها في البداية. فبنكيران يستعمل
مفاهيم يتبناها من المجال العام و يعطيها دلالات خاصة كمفهوم "الاستقرار
السياسي" الذي يعني في خطاب الحزب الملكية كأساس للدولة بالإضافة إلى حزب العدالة
و التنمية في رئاسة الحكومة لأنها حسب اعتقادهم قادرة على تحريك الشارع و الرجوع
به إلى مرحلة الربيع العربي في حالة إقصاءها بطريقة أو أخرى. كما أن استعمال مفهوم
"التحكم" يحمل معنى العرقلة و التضييق أو التشويش على الحزب من طرف قوى
معروفة ضمنيا و غير مشار إليها تصريحا. بالإضافة إلى مفهوم "الفساد" الذي
أصبح مفهوما إشكاليا بعد تصريح بنكيران "عفا الله عما سلف" و أصبح بذلك
مفهوما محصورا في الفساد الانتخابي. و يمكن للقارئ تأمل غير هذه المصطلحات و إدراك
المعاني الخاصة التي يعطيها بنكيران و حزبه لها.
لأن المجال لا يسمح بالمزيد من التحليل، نجد في مقارنة حالات الشعبوية التي سردنا لحد الآن مجالا للتلخيص و المقارنة.
حيث يمكن القول أن الشعبوية في عمومها تستفيد من الأزمات السياسية و الاقتصادية
لاكتساح نسبي أو كلي للانتخابات ,وأنها تعتمد على تقسيم تبسيطي للمجال السياسي بين
الشعب و أعداء الشعب من النخب السياسية. كما يمكن أن نلاحظ بأن المد الشعبوي يواجه
بامتعاض من باقي الفاعلين السياسيين و هذا يضعه في موضع المنافس الجدي، الأمر الذي
يجعل من انكماشه مسألة وقت و ذلك كنتيجة لمحاولات ضبط علاقات السلطة عبر آليات و
مؤسسات أخرى غير الانتخابات كما يحدث حاليا في المغرب. كما أن هناك فرقا واضعا بين
هذه الحالات و هو كون الشعبوية في المغرب تُمارس من طرف حزب يقود الحكومة ضد
الدولة و الفاعلين السياسيين الآخرين، و هذا يعتبر تناقضا جوهريا يعكس التناقض
الهيكلي للنظام السياسي وازدواجيته.
أستاذ باحث بجامعة شعيب الدكالي
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة