تعتبر مدينة الجديدة قبلة للسائحين على مدار السنة، و تفتح ذراعيها للمصطافين من مختلف جهات المملكة في فصل الصيف، حيث تعد من المدن الفريدة في المملكة التي تزخر بشواطئ جميلة، ومناظر طبيعية تستهوي الناظرين، حتى قيل في شاطئها سيدي بوزيد، بأنه مرقد إله البحر الإغريقي "بوزيدون"، و تروي حكاية تاريخية أن الرحالة القرطاجي حانون استكشف هذا الشاطئ، فانبهر بمنظر غروب الشمس في المكان، و هكذا أطلق عليه مسكن إله البحر الإغريقي "بوزيدون"، و كباقي الأسماء، خضع هذا الاسم مع مرور الزمن إلى تحوير وتصحيف أولجه فيما بعد عالم المقدس تحت إسم ما يعرف بسيدي بوزيد، و تجدر الإشارة هنا أن عددا من الأولياء في الثقافة المارابوتية المغربية طالهم تحوير في الاسم، كإله اليهود الذي يدعى شيمهاميفوراش، و تم تحريف إسمه في منطقة الأطلس ليمسخ إلى كائن جني يدعى شمهاروش، هذا بالرغم من وجود هذا الاسم في حكايات وأساطير قديمة.
إن عروس
الشواطئ مازاكان لازالت تستقطب صناعات مختلفة، و شركات متعددة الجنسيات، حيث
أصبحت قطبا اقتصاديا يجلب أيادي عاملة أجنبية ومحلية من مختلف أنحاء المملكة، و
بالرغم من هذا التقدم الحاصل اقتصاديا، و ارتفاع عدد الساكنة، ناهيك عن الهجرة
القروية، تعاني المنظومة الصحية في هذه المدينة جملة أعطاب، سنتطرق إليها بالتفصيل
في مناسبات قادمة، لكن ما أثار حفيظتنا اليوم هو موت صديق عزيز علينا من جراء
التفريط و النقص الحاصل في الكوادر الطبية بالمدينة، إذ أن موت العميد السابق
لكلية الآداب، الأستاذ محمد المهناوي من جراء ذبحة صدرية ثانية بعد أن نجى لسنوات
مضت من الذبحة الأولى عبر رحلة مكوكية بسيارة أحد الأصدقاء من مدينة الجديدة إلى
مدينة سلا، حيث أجريت له عملية جراحية أنقذت حياته آنذاك، لدليل واضح على غياب
بنية تحتية لمواجهة مخاطر انسداد أحد شرايين القلب (infarctus)،
و هو خطر يتربص بجميع المواطنين دون تمييز من لاعبي كرة القدم مرورا بعامل الإقليم
إلى أطباء القلب و الشرايين أنفسهم.
إن مدينة
الجديدة تعاني غيابا تاما لجراحة القلب و الشرايين ، مما يضع أكثر من نقطة استفهام
حول مصير ساكنتها في مواجهة مخاطر الذبحة الصدرية التي لا تتطلب فقط حقن الأدوية
لإذابة تجلط الدم، بل في غالب الأحيان تستدعي عملية قسطرة لإعادة فتح الشريان
المصاب، و هكذا، إذا أصيب أحد سكان المدينة أو الإقليم بذبحة صدرية تسببت في
انسداد أحد شرايين القلب، و تستدعي تدخلا سريعا لإنقاذ حياة المريض، نتساءل كيف
سيتم إسعافه و إنقاذ حياته من موت محقق؟
في هذا
السياق، سيجيبك آلاف المواطنين الجديدين و تروى لك الحكايات عن المغامرات الطرقية
و الرحلات المكوكية إلى مدينة الدار بيضاء لإسعاف مرضى القلب، إذ يتم هذا غالبا
بوسائل جد بدائية مقارنة مع الجارة أوروبا، فتلجأ الساكنة إلى نقل المريض على وجه
السرعة على متن سيارة الأسرة أو الأجرة، أو على متن ما يشبه سيارة إسعاف مهترئة
تكلفهم مئات الدراهم، لكن غرائب هذه الرحلات و عجائبها تكمن في نهايات مأساوية على
الطريق الوطنية، و قد يتوفى المريض في أي لحظة لا يستطيع معها التنفس، و الرجوع
إلى عالم الحياة. إنها رحلة سيزيفية، تنقل صاحبها إلى المجهول، إما أن ينتصر على
ملك الموت، و يصل إلى الطبيب المنقذ أو لا يتخطى عتبة سمرقند ليعانق ملك الموت و
يعلن الرحيل.
عزيزي القارئ
الجديدي، موعدنا أنا و أنت في سمرقند. لماذا سمرقند؟ تلك حكاية تعبر عن
مأساة الرحيل خلال سفر المريض الذي يعاني ذبحة صدرية إلى مدينة الدار البيضاء،
و قد تكون سمرقند هي نقطة بئر الجديد أو الأحد السوالم على أكثر تقدير.
لا نفشي سراً
غيبيا، إذا قلنا إن غياب جراحة القلب و الشرايين بمدينة الجديدة، تضع ساكنتها في
مرمى قوس عزرائيل، و ليكن في علم النخب التي تسير المدينة أن رماح عزرائيل تقنص كل
من تعثر قلبه عن الخفقان، و لا تميز بين طبيب و أستاذ و رجل أمن و باقي
الغوغاء. أمام رماح عزرائيل، سنسقط لا محالة قنيصا في ثوب أبيض ملفوف، ثم نحمل على
الأكتاف إلى مقابر الخلود.
ماذا وقع
لمدينتنا حتى يُشحن فيها مريض يعاني ذبحة صدرية في سيارة أجرة أو ما يشبه سيارة
إسعاف، ثم تسابق المركبة الريح في اتجاه الدار البيضاء أو ربما المجهول؟ إنه مشهد
درامي يذكرنا بحكاية سمرقند التي أشرنا إليها سابقا. هل هو موعد مع ملك الموت في
الطريق إلى الدار البيضاء؟ هل قدر الجديدين الموت في الطريق؟
تتحدث حكاية
سمرقند عن ملك الموت الذي زار جنديا بالعراق وسأل عنه خليفة البلاد، فلما سمع
الجندي بخبر حلول ملك الموت بالمدينة، و بسؤاله عنه، امتطى جواده، و سابق الريح
فارا إلى سمرقند، و لما سأل ملك الموت الخليفة عن الجندي، أجابه الخليفة بأن هذا
الأخير هرب من الموت متجها نحو سمرقند، فابتسم ملك الموت ضاحكا، و تعبّس وجه
الخليفة الذي سأله عن سر ابتسامته، فأجابه ملك الموت: " ضربت موعدا مع هذا
الجندي في سمرقند!" تعتبر حكاية سمرقند بمثابة خطاطة ثقافية بنيوية تتكرر في
كل مكان وزمان، و نعتقد أن ساكنة مدينة الجديدة لهم لقاء مع ملك الموت في سمرقند
المغرب، فمنذ انطلاق السيارات المتجهة نحو الدار البيضاء، و ملك الموت يرافق
المريض، متهكما ساخرا من غباء المنقذين و بدائية أدواتهم، فغالبا ما يعانق المريض
في منتصف الطريق عند نقطة البئر الجديد أو الأحد السوالم على أبعد تقدير، ليصطحبه
إلى مثواه الأخير.
لن تستغرب
عزيزي القارئ، إذا قيل لك أن ملك الموت حين يرافق مريضا يعاني ذبحة صدرية في
أوروبا، تجده متوترا وعلى أعصابه، نظرا لقوة الخصم و كثرة المسعفين و ارتفاع درجة
حرفيتهم، فغالبا ما يحول فريق المسعفين المدججين بوسائل تكنولوجية حديثة على متن
سيارة الإسعاف بينه وبين عناق مريضهم، حيث يشكل انطلاق سيارة الإسعاف المجهزة التي
تتوفر على طاقم طبي يرافق المريض تعسيرا في مهمة عزرائيل الذي يراقب
الوضع عن كتب، و قد يعود أدراجه خالي الوفاض منتظرا موعدا آخر. نحن نعي أن لكل
نفس أجلها، لكن الأجل المسمى لا يجب أن ينسينا أو يحجب عنا مسؤولية الدولة في
الحفاظ على سلامة و صحة مواطنيها، ونتساءل في هذا الصدد عن عدد الضحايا الذين
رحلوا عنا في غبن و تهميش ونسيان وإهمال.
رسالتنا إلى
من يهمهم الأمر، و نتوجه بتحذير من مخاطر الذبحة الصدرية إلى السيد وزير الصحة
وعامل الإقليم، أننا جميعا في مرمى قوس عزرائيل، ومادامت المدينة لا تتوفر على
سيارات إسعاف مجهزة بطواقم طبية، و غياب جراحة القلب و الشرايين بالمدينة، سنظل
نقامر بحياة عوائلنا في رحلة هروب إلى سمرقند.
ما
السر وراء غياب جراحة القلب و الشرايين بالمدينة؟ لماذا هذا الإهمال في رسم خريطة
علاجية متوازنة من طرف الوزارة الوصية على القطاع؟ ليكن في علم السيد عامل
الإقليم، أنه لا قدر الله ، إذا أصيب أحد أفراد عائلته بذبحة صدرية، سيضطر هو
الآخر إلى امتطاء جواده و السفر إلى سمرقند.
أيها
الجديديون، أين المفر؟ البحر من ورائكم، و سمرقند أمامكم، وليس لكم والله إلا
الصبر والاستسلام!؟
(و لنا عودة
في مقالة أخرى لتسليط الضوء على معاناة مرضى السرطان و غياب مركز جهوي للأنكولوجيا
بمدينة الجديدة)
ذ. محمد
معروف، أستاذ بجامعة شعيب الدكالي
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة