تعتبر حملة المقاطعة التي أطلقها بعض نشطاء الفايسبوك صرخة مدوية ترددت أصداؤها بالأروقة الإعلامية عبر العالم، إذ استجاب لها دون إبطاء العديد من المستهلكين المغاربة، نظرا لاستيائهم المشحون من غلاء المعيشة وإثقال كاهلهم بالإحباطات الاجتماعية المتكررة، ناهيك عن فشل الحكومات المتعاقبة في وضع سياسات اقتصادية تتسم بتوفير الرخاء للمواطن والرفع من قدراته الشرائية. لقد أكدت هذه الحملة اليوم بأن الاقتصاد الوطني الذي يشهد نموا متواترا، لا يتسم بالعدالة الاجتماعية، إذ لا تستفيد جل الشرائح من الثروة التي ينتجها، مما يدق ناقوس إنذار لإصلاح المنظومة بأكملها، والتقليل من عواقب الثراء الفاحش والتوزيع غير العادل للثروات.
لقد
شكل الفايسبوك المحرك الأساسي لهذه الحملة، إذ احتضن إنتاج الأفكار السياسية
التي تعبر عن المقاطعة، ومكن مستخدميه من التأثير في القرارات المؤسساتية، مما قد
يجعله مستقبلا مجالا عاما افتراضيا بامتياز. و كل ما سيترتب عن المقاطعة من نتائج
سلبية على الشركات المستهدفة، و ما سينبثق عن الحكومة من تدابير وإجراءات، سيشكل
منعطفا في مسار الفايسبوك باعتباره مجالا عاما حرا مؤثرا لا يخضع لرقابة الدولة،
لكنه في الوقت نفسه، قد يشكل خطرا على المجتمع، نظرا لغياب حدوده الجيوسياسية،
وإمكانية انزلاقاته نحو المجهول. إن المجال العام الفايسبوكي يفتح منبره في
وجه المواطن العالمي لكي يساهم في إذكاء حماس الأجندات العامة، و هذا ما تمت
ملاحظته بالفعل في حملة المقاطعة، حيث أن بعض مغاربة العالم لعبوا دورا كبيرا في
التحريض عبر فيديوهات توثق انخفاض أسعار الحليب والماء والمحروقات في دول
الاستقبال، بينما دولة المنشأ حسب منظورهم مازالت تئن تحت وطأة الغلاء و
النهب والاحتكار.
قبل الخوص
في تفاصيل كيفية انتشار المقاطعة و آلياتها المعتمدة في تمرير خطابها التحريضي،
نود أن نتساءل في البداية عن ماهية هذا النوع من المقاطعة الاستهلاكية، فنطرح
الأسئلة التالية: هل هي مقاطعة احتجاجية على غلاء الأسعار، أم هي مقاطعة لإبلاغ
رسائل سياسية لجهات معينة، أم هي مقاطعة انتقامية من أشخاص وطبقات اجتماعية، أم هي
مقاطعة عقابية للدولة بجميع مكوناتها؟ نحن لا نمتلك الجواب على هذه الأسئلة، ومع
الأسف، هذا ما تفتقر إليه مؤسسات الدولة، تلك أبحاث علمية وتقارير من المفروض
إنجازها لكي تجيبنا على هذا النوع من الإشكاليات. إن ظاهرة الاستجابة السريعة
للمقاطعة لا تتطلب "دوخة" المؤسسات الحكومية، ولكن تتطلب بحثا ميدانيا
وفهما عميقا لما يدور في المنابر الافتراضية و في الأسواق التجارية، حتى نتمكن من
فهم سياقات المقاطعة وتركيزها على شركات دون أخرى.
نسوق لكم
مثالا عن الدردشات التي انخرطنا فيها مع بائعي هذه المنتجات و مع بعض التجار في الأسواق،
إذ تدل المؤشرات على أن المقاطعة انتقامية من النهب والاحتكار و اللصوصية، و
معاقبة الدولة لعدم اكتراثها بقاضايا المواطن، إذ فاجئني أحد التجار بأنه خضع لطلب
ابنه أن لا يشتري حليب سنترال، وأيد الأب كلام ابنه بحجة أن الدولة لا تفي بعهودها
والتزاماتها، فقال لي: "انظر هناك، إن أعوان السلطة يحمون
"الفراشة" مقابل عشرين درهما يوميا، و خمسين درهما أسبوعيا، بينما نحن
نؤدي ضرائب،" ثم واصل قائلا ما مفاده بأنه فرضت عليهم رسوما جديدة بدعوى
استغلال الملك العمومي، أما "الفراشة" فما زالوا يرتعون في الشارع العام
تحت رعاية السلطة، فحاولت أن أحاججه بخطر المقاطعة على سوق الشغل، و إمكانية تقلص الإنتاج،
فأجابني غاضبا: " خلي بوها تقلب! ما كينش الحق في البلاد" لا يختلف
الباقون من التجار عن هذا التدمر العاطفي الذي وصل إليه هذا البقال، فالكل يشتكي
من الفوارق الاجتماعية، وينعت الشركات باللصوصية، بل منهم من يقاطع بيع حليب
سنترال، ويبيع ماركات حليب أخرى، تحت شعار "أنا مع الشعب"، حسب تعبيره،
و يتبين أن المشكل الاقتصادي لا يتمثل فقط في الغلاء، و إنما كذلك في السلوك التجاري
والاقتصادي لأصحاب الرأسمال، إذ لا يرسم المقاطعون لهم صورة منعشين اقتصاديين
يوفرون فرص شغل، و يساهمون في خلق الثروة التي يستفيد منها المجتمع، ولكن صورة
لصوص ينهبون الثروة ويقتاتون على الريع، و يحتسون عرق فلذات هذا الشعب (خطاب يدغدغ
المشاعر).
ما يثير الدهشة
في مقاطعة "المداويخ"، هو سرعة الاستجابة التي أبداها هؤلاء لنداء
المقاطعة الافتراضي دون افتحاص الخطاب الدعائي ومقوماته، مما يؤشر على تعب
المستهلك المغربي و "دوخته" أمام غلاء المعيشة، وانخفاض قدرته الشرائية،
تلك تربة خصبة لاندلاع الحركات الاحتجاجية في المستقبل.
لماذا لم
يتساءل المقاطعون عن هوية المحرضين وعن المكاسب السياسية المراد تحقيقها من وراء
الحملة، علما أن أخنوش ومن معه، يشكلون حاجز بلوكاج ضد الأطماح السياسية لفريق
البيجيدي؟ لقد سادت لغة العاطفة، وتم تجييش المقاطعة عبر السخرية والنكتة
والأغنية، بعدما شكلت التصريحات المستفزة لبعض المسؤولين مادة خام لبناء حجاج
المقاطعة، إذ عوض ما تتبنى الحكومة خطابا مسؤولا لشرح التجاذبات الاقتصادية، و
النظر في مطالب المستهلك، و معالجة ما يمكن معالجته، قرر وزير "المداويخ"
بسبهم تحت قبة البرلمان، مما أشعل فتيل المقاطعة، و أسال مداد الإبداع، فأنتج
المقاطعون أغنية تحت عنوان "المداويخ". لقد انخرط هؤلاء بمشاعرهم
وعواطفهم، و لم يفكر أحد في تبعات المقاطعة على القوة العاملة بهذه الشركات
المستهدفة، بل تم التركيز فقط على السعي وراء الانتقام من رؤوس أموال فاسدة في
نظرهم.
و تظهر جليا
بصمات انخراط الشبيبة الإسلامية في دينامية التحريض على المقاطعة بفيديوهات تحمل
تيمات دينية، كفيديو الرقية الشرعية للجن "السنترالي"، و النشيد الرسمي
للمقاطعة الذي ظهر على صفحة "مغاربة العالم"، إذ تم تحويره من مقاطعة
الانتخابات لسنة 2016 إلى مقاطعة حليب سنترال ومحروقات شركة افريقيا و منتج
سيدي علي، هو نشيد يحمل ثنائية "القومة والعبيد"، و ينصهر في المعجم
السياسي لجماعة العدل والإحسان، فضلا عن مشاركة شيوخ السلفية في شرعنة حملة
المقاطعة عبر فيديوهات على اليوتوب، كالشيخ النهاري و الشيخ رشيد نافع.
إن غياب
السؤال حول ماهية المقاطعة، وسقف المقاطعة وبرنامج المقاطعة و أهداف المقاطعة
وزعماء المقاطعة، يعتبر مؤشرا خطيرا على درجة احتقان المجتمع واستعداده للانفجار
في أي لحظة، فمقاطعة "المداويخ" تعتبر تنفيسا نسبيا لتراكم الإحباطات،
وتوهم أصحابها بالانتصار على الرغم من أنها تعتبر شكلا احتجاجيا ضعيفا مقارنة مع
الأساليب الاحتجاجية الأخرى، حقّا، قد تلحق أضرارا مادية بالشركات، و قد تتسبب في
نفور المستهلك من بعض الماركات، لكنها سرعان ما تتبخر مع مرور الأيام والأسابيع
بتغير أجندات المجال العام.
لماذا لم
يطرح السؤال حول هوية من قام بالتحريض على حملة المقاطعة؟ أسئلة حول هوياتهم
الاجتماعية وانتمائهم السياسي والإيديولوجي ؟ هل أطلق الحملة نشطاء عاديون، أم
ينتمون لمجتمع مدني، أم فرقاء سياسيون، أم شبيبة إسلامية؟ لماذا تم توظيف تدوينات
فنانين وشخصيات معروفة للترويج لخطاب المقاطعة؟ لنأخذ مثلا صفحة رئيسية في ترويج
خطاب المقاطعة تدعى "مغاربة العالم"، من يدير هذه الصفحة؟ لماذا تتبنى
هذه الصفحة الإخبارية موقفا إسلامويا مناهضا للرأسمالية و العلمانية بشكل غير
معلن؟ هل تروج هذه الصفحة لمقاطعة عفوية؟
هل تم طرح
السؤال حول معاناة الفلاحين في تربية الماشية وتكاليف الأعلاف الباهظة، و غيرها من
المصاريف، لتتم مقاطعة منتجاتهم بدون سقف أو برنامج في الأفق؟ ماذا عن القوة
العاملة في القطاعات المستهدفة؟ هل نقاطع لإبلاغ رسائل أم لتشريد أسر
وعوائل؟ لماذا تم استهداف أخنوش بالذات، خصوصا، وأن صورا وفيديوهات
نشرت قصد تشويه صورة الرجل سياسيا؟ هل هذه مقاطعة من أجل غلاء الأسعار أم من أجل
تصفية حسابات سياسية؟
لماذا غاب
الخطاب العقلاني في المقاطعة والرد عليها، فبدل تبني خطاب اقتصادي بالأرقام
والشروحات يبين مساهمة هذه الشركات في الاقتصاد الوطني، و الأرباح التي تدرها على
أصحابها وعلى خزينة الدولة، كما تبين هذه المداخلات تأثير قوى السوق ومدى تحكم
البورصة وغيرها من الأبناك و المؤسسات في الأسعار و مآلات الاقتصاد الوطني؟ عوض
تبني خطاب مؤسساتي مسؤول، خرج وزير لسب نشطاء الفايسبوك، واعتمد مسؤولون آخرون لغة
الاستعلاء والتخوين، فانقلبت المقاطعة إلى فرجة سينمائية على الشاشة الافتراضية، وأبدع
المقاطعون فيديوهات تضمنت الفكاهة و النكتة و الموسيقى والرقص والغناء
والتمثيل.
إن خطاب
حملة المقاطعة خطاب شعبوي طهراني بامتياز، يسعى إلى استقطاب المستهلك عن طريق
دغدغة مشاعره، إذ يصور الاقتصاد الوطني في إطار(framing)
"المستهلك الضحية" و"المنتج المفترس"، وهكذا طغى معجم الفساد
على مشهد المقاطعة، فأخذت بعدا انتقاميا لمعاقبة "اللصوص" و "ناهبي
المال العام"، كما استُخدمت مفاهيم مماثلة تصب في اتجاه معاقبة
"الجناة". وأحدث صمت الدولة فراغا خطابيا فسح المجال لهذا النوع من
الخطابات أن يتسلل إلى قلوب المستهلكين، إذ غاب الخطاب التنويري الشفاف الذي يوضح
كيف تشتغل الشركات، و كيف تكسب حصتها في السوق، و مدى هيمنتها واحتكارها للسوق،
وشرح التدابير المتخذة بخصوص حماية المستهلك. التزمت الحكومة الصمت، و ظل
خطابها الرسمي عنوانه " المداويخ"، تعبير غير مسؤول ومزاجي لا يجيب عن
تساؤلات المواطنين بخصوص غياب آليات مراقبة المنافسة ، ومدى احترام الشفافية
في الأسعار! كيف تجيبنا الحكومة عن المبالغة في الزيادة في المحروقات؟ كيف يظل
سعرها مستقرا ولا ينخفض إلا ببعض السنتيمات بينما تتقلب أسعار السوق العالمية
للمحروقات؟
وفي الختام،
ما هي هذه الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من المقاطعة الشعبية التي انطلقت من
الفضاء الأزرق لتكتسح الساحة الاقتصادية الوطنية، هل هذا يعني أن المواطن المغربي
أضحى يكتسب تدريجيا مناعة ووعيا سياسيا عن طريق احتكاكه برواد الفضاء الأزرق، مما
قد يمكنه مستقبلا من التأثير في القرار السياسي؟ كيف ستتعامل الدولة مستقبلا مع
تمرس الشبيبة الإسلامية وإتقانها بشكل ملفت للنظر للمهارات الالكترونية، إذ أصبحت
اليوم قادرة عبر مؤسساتها الإعلامية السرية والعلنية على التأثير في محيطها
الثقافي، وإنتاج الآلاف من السرديات والمرئيات والصور والرسوم و الأناشيد قصد
الاستقطاب والدعاية والتجييش وتغيير الأجندات العامة و التجنيد والدعم و القرصنة و
التحرر من الرقابة. أمام هذه المتغيرات العالمية، هل من المعقول أن تستمر الدولة
في نهج سياسات أمنية بالية متآكلة ترتكز على أعوان السلطة، بينما تعمل جل الدول
الآن على تجنيد العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتواصل واللسانيات
لإعداد التقارير والأبحاث الاستشارية قصد مساعدة المؤسسات الحكومية في سن السياسات
المناسبة؟
تتطلب
الممارسة السياسية اليوم أكثر من أي وقت مضى، فضلا عن تجديد النخب السياسية، دراسات
ميدانية و تمحيصا في قضايا المجتمع عبر إنشاء مراكز وهيئات بحثية تجمع معطيات
دقيقة حول مختلف القضايا الاجتماعية لمباشرة حلها على المدى القريب و المتوسط
والبعيد، إذ لا يعقل أن تستمر الدولة في اللامبالاة باحتقان الجماهير، ذلك لأن خطر
المقاطعة العقابية، قد يشكل منعطفا جديدا في أسلوب الاحتجاج بالمغرب، و من المحتمل
جداً أن تنتقل عدوى المقاطعة إلى قطاعات مختلفة لتأخذ شكل عصيان مدني، فترمي
بالدولة والمجتمع في آتون أزمات متتالية مجهولة الخواتم. كم عدد
المؤسسات و الهيئات و العقود البحثية المستقلة التي أبرمتها الحكومات المغربية
خلال العقود الأخيرة لإنجاز أبحاث وتقارير علمية عن المجتمع وقضاياه وواقعه
وأحلامه، ونسيجه وصراعاته، حتى تتمكن من بناء القرار السياسي والاقتصادي السليم؟
ذ، محمد معروف ، جامعة شعيب الدكالي
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة