الإصلاح السياسي في المنظور الفقهي المعاصر
الإصلاح السياسي في المنظور الفقهي المعاصر

 يشير العديد من الباحثين إلى أن كلمة الإصلاح ليست جديدة على الفكر السياسي العربي، فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم عدة مرات، وبمعانى مختلفة، منها ما يشير إلى الصلح، ومنها ما يفيد القيام بعمل صالح، وبالتالي فإن مفهوم الإصلاح ليس جديداً في العقل العربي – الإسلامي، بل هو قديم لم يبدأ بظهور الأفكار والتيارات الإصلاحية في القرن الماضي، أو القرن الذي سبقه، أو بالمبادرات الإصلاحية في الوقت الراهن، فالدعوة إلى الإصلاح بدأت قديماً في الدولة الإسلامية. ويمكن اعتبار الأفكار التي نادى بها ابن تيمية بداية الدعوات الإصلاحية في العالم الإسلامي، أو ما يمكن تسميته بالإصلاح الديني، ثم تطور ليصبح مطلباً نهضوياً طرحه المفكرون العرب قبل أكثر من قرن من الزمان "أي فترة ما يمكن أن نسميه بعصر التنوير العربي أو عصر النهضة العربية" في سعيهم نحو تحقيق نهوض أو تقدم عربي في شتى مجالات الحياة.

وقد عرّفت "موسوعة السياسة" الإصلاح بأنه "تعديل وتطوير غير جدري في شكل الحكم، أو العلاقات الاجتماعية دون المساس بأساسها، وهو بهذا المعنى السياسي – خلافاً للثورة- ليس سوى تحسين في النظام السياسي والاجتماعي القائم من دون المساس بأسسه. إنه أشبه ما يكون بإقامة دعائم الخشب التي تحاول منع انهيار المباني المتداعية. ويستعمل عادة للحيلولة دون الثورة أو لتأخيرها. ويطلق كذلك تعبير الاصلاح على الحركة الدينية التي نشأت في القرن السادس عشر بأوربا وأدت إلى انتزاع قسم كبير من أوربا من سلطة الباباوات الزمنية والدينية، ومن أهم ممثليها لوثر وكالفن، على حد تعبير الكيالي عبد الوهاب في  موسوعته السياسية.

وعرف قاموس "وبستر" للمصطلحات السياسية (1988) الإصلاح السياسي بأنه "تحسين النظام السياسي من أجل إزالة الفساد والاستبداد". ويعتبر الإصلاح السياسي ركناً أساسيا ًمرسخاً للحكم الصالح، ومن مظاهره سيادة القانون والشفافية والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار والعدل وفعالية الإنجاز وكفاءة الإدارة والمحاسبة والمسائلة والرؤية الاستراتيجية، وهو تجديد للحياة السياسية، وتصحيح لمساراتها، ولصيغها الدستورية، والقانونية، بما يضمن توافقاً عاماً للدستور، وسيادة للقانون، وفصلا ًللسلطات، وتحديداً للعلاقات فيما بينها، وهو التعريف الذي يتبناه برنامج الأمم المتحدة لإدارة الحكم في الدول العربية. وعرفته موسوعة السياسية بأنه "تعديل أو تطوير غير جذري في شكل الحكم أو العلاقات الاجتماعية دون المساس بأسسها، وهو بخلاف الثورة ليس إلا تحسين في النظام السياسي والاجتماعي القائم دون المساس بأسس هذا النظام، أنه أشبه ما يكون بإقامة الدعائم التي تساند المبنى لكي لا ينهار وعادة ما يستعمل الإصلاح لمنع الثورة من القيام أو من أجل تأخيرها".

        أما الباحث "عمر علي باشا" فقد اعتبر أن الإصلاح السياسي هو عملية تعديل وتطوير جذرية أو جزئية في شكل الحكم، أو في العلاقات الاجتماعية داخل الدولة في إطار النظام السياسي القائم، وبالوسائل المتاحة واستناداً إلى مفهوم التدرج، وبمعنى آخر فالإصلاح يعني تطوير كفاءة وفاعلية النظام السياسي في بيئته المحيطة داخلياً وخارجياً. والإصلاح السياسي يجب أن يكون ذاتياً من الداخل وليس مفروضاً من الخارج، كمال يجب أن يكون شمولي الطابع، ويجب أن يحمل في طياته صفة الاستمرارية، وواقعياً ينطلق من واقع الدولة وطبيعة الاختلالات القائمة المراد إصلاحها، ويجب أن ينحى منحى التدرج، مرحلة تلو الأخرى، وأن لا يكون سريعاً ومفاجئاً، ويركز فيه على المضمون والجوهر لا الشكل، وباعتقادنا يجب أن يتلازم مع البنى الفكرية القائمة، لأن حالة التعديل حالة ذهنية، أي يجب أن تكون مستوعبة ومدركة عقلياً من الخاصة والعامة على السواء، ناهيك عن أهمية الشفافية والوضوح، وألاّ يكون في طياتها غموض أو قفز نحو المجهول. وبيّن الباحث أعلاه أن مفهوم الإصلاح السياسي يتداخل مع مفاهيم ومصطلحات سبقته ودرج على استخدامها مثل، التنمية السياسية، التحديث السياسي، والتغير السياسي، وجميعها تصب في حالة التحولات التي تحدث في النظام السياسي مع اختلاف في نقاط التركيز والأسلوب في التعامل مع مضامين وآليات هذا التحول ضمن إطار الجوهر أو المظهر، (الشكل أو المضمون)، فالتغير السياسي يشير إلى التحول في الأبنية أو العمليات أو الغايات بما يؤثر على توزيع وممارسة القوة السياسية بمضامينها مثل: السلطة، والإجبار، والنفوذ السياسي داخل الدولة، أو في علاقاتها الخارجية.

 

من يتوجب عليهم القيام بأمر الإصلاح في المنظور السياسي الإسلامي؟

        يعتبر الدكتور صبري خليل في مقالة له بعنوان "التغيير والإصلاح في الفكر السياسي الإسلامي" أن خصوصية الإصلاح في الإسلام تبرز أيضاً من خلال قانونية القائمين به، يقول الدكتور في هذا الشأن "هو التغير من خلال قانوني تتوفر فيه إمكانية التغيير، فهو تغيير تدريجي جزئي سلمي يتم من خلال نظام قانوني تتوافر له الشرعية التكليفية (نظام قانوني إسلامي)، والتكوينية (السلطة فيه جاءت من خلال بيعة صحيحة أو انتخابات، باعتبارها عقد اختيار لم يدخله إجبار، وهي نائب ووكيل عن الجماعة لها حق تعيينها ومراقبتها وعزلها)؛ فهو شكل من أشكال مراقبة السلطة" منطلق الدكتور هنا قائم على من له حق تطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنصوص عليه إسلامياً. من أهم مستلزمات الإصلاح عند الأستاذ محمد بريش:

1.  أمن العقول المصلحة في حرية فكرها وإطلاق ألسنتها في قول كلمة الحق الكفيلة بإصلاح حال المجتمع.

2.   الاستقلال الفكري للمصلحين، وكذا استقلالهم عن أي تأثير خارجي من أي نوع كان.

3.   حيازة مقدار عال من الحكمة والمعرفة والعلم.

4.   الإصلاح لا يكون كذلك إلا إذا كان جامعاً مانعاً، شاملاً لا يهمل أي مجال من مجالات الحياة.

متى يكون/ ينبغي الإصلاح في المنظر السياسي الإسلامي؟

        يختلف آنُ الإصلاح تبعاً اختلاف نوعه، فوعي الحاجة للإصلاح الاجتماعي المجتمعي يختلف عن وعي الحاجة إلى الإصلاح السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو غيره من أنواع الإصلاحات. وعموماً نستطيع أن نقول إن الحاجة إلى الإصلاح تجب "عندما تصل الأوضاع في المجتمع المسلم إلى ما أسماه علي أومليل بـ"غربة الإسلام"، مسترشداً بالحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: وما الغرباء يا رسول الله، قال: الذين يصلحون عند فساد الناس" (أومليل علي، ما هو الإصلاح بمفهوم إسلامي، الرباط 1983) والذي يقوم بعملية الإصلاح هنا هو جهاز الحسبة والقائمين عليه، ولكن أغلب الفقهاء لم يجيزوا الخروج على الحاكم مخافة الفتنة. السلطة، عندهم، مهما جارت، خيرٌ من غيابها. ثم إن الحسبة لا تقوم بها إلا هيأة معينة من طرف السلطة، بل إن الشريعة الإسلامية عندهم في المبتدأ والمنتهى لا تقوم إلا بالسلطة السياسية، لذا يصبح الإصلاح رهيناً بوجود السلطة السياسية. 

        لكن الإصلاح أصبح حاجة ملحةً في عالمنا الإسلامي لما ازداد الاحتكاك بالعالم الغربي المتفوق، عندها تنبهت النخبة الحاكمة في الإمبراطورية العثمانية مثلاً إلى حاجتها الملحة للإصلاح، هذا الوعي يمكن التأريخ له بالقرنين الثامن العشر والتاسع عشر. لكن القرن 19 أكثر القرون كشفاً للذات الإسلامية والضعف الذي آلت إليه. فالعالم الإسلامي بدا ضعيفاً مترهلاً، أما أوربا البورجوازية فظهرت مزوهةً، منتشيةً، وقويةً، بما باتت تحققه من فائض في كل شيء، فقد وصل الأوربيون إلى الإمبريالية، باعتبارها أعلى درجات الرأسمالية، فبدؤوا يصدرون فائض قيمهم، كما صدروا فائض منتجاته إلى من يحتاجها، أو إلى من لا حاجته له بها في الأصل. الأمر الذي فرض على العالم الإسلامي تحديات مختلفة، بدأت سلمية أو متمسحة بالقوة الناعمة، وسرعان ما انتهت عسكرية فجة لا غطاء تتدثر بها غير قناع التفوق الحضاري ووهم المركزية الأوربية المستعلية.

        في المبتدأ وقف القيمون على الشأن العربي الإسلامي، من نخبة حاكمة ومن يحوم في فلكها، على الحاجة الملحة إلى لإصلاح العسكري، لأن الاحتكاك الأول مع الغرب كان عنيفاً كاشفاً للذات المنخدعة بوهم قوتها التاريخي، ثم انتقلت تلك الحاجة إلى الميدان الاقتصادي بعد أن وعى أصحاب الشأن في عالمنا الإسلامي بأن مرد التفوق العسكري الأوربي تفوقٌ لا يقل عنه شأناً عاشه الغرب في الميدان الاقتصادي بمختلف تجلياته، مع توالي الاحتكاك بالغرب، طوعاً أحياناً وقصرا أحيناناً أخرى.

        أما في المغرب الحديث فقد دخلت فكرة الإصلاح مجال التداول النظري منذ مستهل القرن التاسع عشر، وعرفت نمواً في كثافة الاستعمال بدءاً من العقد الرابع منه غداة هزيمة "إسلي" (1844) حيث لاقت الجيوش المغربية هزيمة نكراء في ظرف زمني وجيز، جعل السلطان وحاشيته يقفون مشدوهين أولاً، ومحاولين، ثانياً، البحث في أسباب الضعف. ثم جاءت هزيمة أخرى أشدُ وقعاً على نفوس المغاربة لما لها من تداعيات نفسية ومالية وغيرها. سميت تلك الهزيمة بحرب تطوان وكانت في 1859/1860 ضد الإسبان.

بعد هزيمة "إيسلي" المدوية، وما أعقبها من شروط صلح مجحفة، من خلال اتفاقية "لالة مغنية" في 18 مارس 1845، وهزيمة تطوان المذلة وما أعقبها من شروط صلح أشد إذلالاً، وجدت النخبة المغربية نفسها في حيص بيص، بين من ينادي بالجهاد هروباً إلى الأمام، ومن يبحث في النصوص العتيقة عن تفسيرات لما وقع، هروباً إلى الوراء، وبين هذا وذاك وُجدت عناصر من داخل المخزن المتهالك، بحثت في المسألة بأدوات العصر، فخلصت إلى تبدل الأحوال، وأن الذي كان بالأمس قوياً، ولا يرى في المرآة إلا صورته، بات لزاماً عليه البحث عند الآخر عن سر تفوقه، عله يقف عن أسرار ضعفه، بعد الوهن الذي اعتراه، وكان لما خلفته رحلة المصري "رفاعة رافع الطهطاوي" كبير الأثر في تنوير من يعنيهم الأمر بضرورة الاطلاع على الكيفية التي وصل بها الفرنسيون إلى هزيمة المغاربة بتلك السهولة، وكذا الإسبان. 


حنان بنبوعنان، طالبة باحثة  في الدراسات الإسلامية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية أبي شعيب الدكالي.


الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة