جائحة «كورونا المستجد» وهواجس الاستشراف
جائحة «كورونا المستجد» وهواجس الاستشراف

لاشك أن الاستشراف نزعة إنسانية قديمة قدم الإنسان، تختزل شغفا إنسانيا نحو استكشاف المستقبل واستكناه مجاهيله واستطلاع غوامضه، وتشتد الحاجة إليه في ظروف الأزمات ولحظات الشدة الفارقة في حياة الأفراد والمجتمعات.

وقد شكلت جائحة «كورونا كوفيد 19» حدثا مفصليا في الربع الأول من القرن العشرين الميلادي، بل لعلها أبرز حدث من نوعه يعيشه الإنسان المعاصر في ظل منظومة العولمة الغربية، إذ أرخى بظلاله في وقت وجيز على جميع الشعوب والبلدان، فلم تكد تسلم دولة من آثاره المدمرة على صحة الإنسان، بل وعلى الاقتصاد والسياسة والاجتماع، على تفاوت بينها في التأثير والتأثر، وإن كانت الدول الغربية الغنية تبدو الأكثر تأثرا من جراء هذه الجائحة بسبب ديناميتها الاقتصادية التي تفوق باقي البلدان.

ورغم أن جائحة ««كورونا المستجد»» شكلت صدمة من صدمات العولمة المتوقعة على شاكلة الأزمات المالية الكبرى التي تضرب الأسواق المالية في العالم بشكل دوري، نحو أزمة وول ستريت سنة 1929 أو الأزمة المالية سنة 2008، فكذلك الجوائح والأوبئة لها دوراتها الطبيعية التي تضرب العالم بين الفينة والأخرى، نحو وباء الكوليرا والحصبة والملاريا وإيبولا والأنفلونزا وغيرها

إلا أن الذي يختلف فيما يتعلق بفيروس «كورونا المستجد»هو سرعة الانتشار، إذ في غضون أسابيع قليلة من انتشار الوباء بمدينة ووهان الصينية تحولت كورونا كوفيد 19 إلى وباء عالمي، يهدد حياة ملايين البشر في جميع أنحاء المعمورة، بحيث اضطرت الدول إلى إغلاق الحدود وشل حركة المدن، وتوقيف حركة النقل البري والملاحة الجوية والبحرية، وحبس ملايين البشر في بيوتهم، في مشهد مثير ومذهل جعل منظمة الصحة العالمية وجميع الفاعلين الصحيين في العالم عاجزين عن تقدير الموقف وإدراك سبل التعامل معه، والفارق في هذه الجائحة أنها جاءت في مرحلة تاريخية تشكل ذروة سنام العولمة بحيث يعيش النظام الرأسمالي في أوج قوته وتوهجه بعد التخلص من العديد من عوائق الحرب الباردة، وإثر تجاوز الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، والتطور الهائل لحالة التداخل الاقتصادي بين دول العالم وما عرفته سلاسل التوريد والإنتاج من تمدد عبر دول العالم. ولعل هذا السياق ما يجعل من وباء «كورونا المستجد» بالفعل من أشد الصدمات التي عاشها الإنسان المعاصر في ظل منظومة العولمة.

ولعل حالة الصدمة التي أخذت سكرتها بلب العديد من المثقفين والعلماء والباحثين حول العالم، كانت دافعا قويا ومحفزا على بعث روح الاستشراف لملامح للمستقبل المحلي والعالمي، لينبعث سيل من الدراسات والمقالات والتصريحات، إما بغرض الجزم بتشكل عالم جديد مختلف عن عالم ما قبل «كورونا المستجد»، وليحضر من جديد سؤال المابعديات بصورة مكثفة يحاول أصحابه إقناع المتلقي بجدية رؤاهم، بينما الكثير منها تعرض للآثار المحتملة للوباء على الاقتصادات الدولية والمحلية، أو أثر ذلك على النظام العالمي والتغير المحتمل في توازن القوة بين الأقطاب في العالم، ومستقبل الدولة الوطنية، ومستقبل الطاقة الأحفورية في العالم وقضايا كثيرة

وليس الغرض من هذه المقالة استقصاء كل الأعمال الاستشرافية في هذه المرحلة الضيقة، وإنما التعرض لأنماط وسبل التعاطي مع هذه الجائحة من منظورات استشرافية، تستحضر الدراسات القبلية التي يفترض أنها تنبأت بالجائحة وحذرت منها بشكل استباقي، أو بعض الأدبيات الاستشرافية التي صدرت وقت الأزمة وهي التي أطلقت عليها عبارة «استشرافيات «كورونا المستجد»»، مع رصد محددات الرؤية الاستشرافية وخلفياتها واتجاهاتها المعرفية أكثر من الاشتغال بالأطر المنهجية والتقنية التي تعد سمة محددة لأصول البحث المستقبلي الرصين والدراسات الاستشرافية.

 

أولا ـ جائحة «كورونا المستجد» موضوعا للاستشراف:

جدير بالذكر أن نشير إلى أن أهم ما يميز لحظات الأوبئة هو الهشاشة وطغيان العاطفة وميل الإنسان لتصديق كل ما يتناهى إليه من أخبار وشائعات، فعلى مدار أسابيع تم تداول أخبار ومقالات تضمنت تنبؤات وتكهنات، وقدمت أعمال سابقة على أنها دراسات تنبأت بالوباء قبل وقوعه، وسنقتصر على دراسة بعض النماذج المتداولة الأكثر جدية في هذا الشأن:

1- رواية «عيون الظلام»: صدرت للمؤلف الأمريكي (دين كونتيز) سنة 1981م، والتي تدور أحداثها حول سيدة تسعى للتأكد من كون ابنها مات قبل عام بسبب فيروس وبائي خلال رحلة استجمام أو أنه مازال حيا، وقد تنبأ الكاتب فيها بالفيروس التاجي وأطلق عليه اسم: «ووهان-400»، ويقصد بذلك مدينة ووهان الصينية منشأ فيروس «كورونا المستجد». ويتناول «دين» في روايته نشأة الفيروس في مختبرات خارج ووهان لاستخدامه بوصفه سلاحا بيولوجيا فتاكا يقتل كل من يصيبه بنسبة مائة في المائة، ويسرد الكاتب كيف أن الفيروس قضى على عدد هائل من سكان المدينة في ظرف تسعة أيام حسب محطة (سي إن إن). وبسب تشابه بعض وقائع الرواية مع ما يجري حاليا، واستحضار عنصر المؤامرة في كون فيروس ووهان-400 المتخيل في الرواية ثم تصنيعه في الصين لاستهداف الولايات المتحدة الأمريكية، لولا أن أحد الباحثين انشق عنها ليتحالف مع الولايات المتحدة لضرب الصين، فما تقدمه الرواية في نظر الكثيرين ليس مجرد سرد لوقائع تستند للخيال العلمي، بل تقدم عملا استشرافيا يتنبأ بالجائحة ويحدد موطن نشأتها، وزاد الأمر إثارة أن أطلقت أمازون على النسخة الورقية للرواية اسم: «ووهان-400» بدل الاسم الأصلي: «طيور الظلام».

وفي حقيقة الأمر فالرواية لا تخرج عن نطاق الأعمال الأدبية التي تبنت خط الصراع والاستهداف الأمريكي للصين عبر ما يسمى بالقوة الناعمة الأمريكية، فمدينة «ووهان» معروفة بأنها موطن للصناعات الطبية والمختبرات البيولوجية في الصين منذ عقود.

وبالنظر إلى أن الرواية ظلت مغمورة لثلاثة عقود من صدورها، فإن هناك تشكيك جدي فيما إذا كان قد طرأ تعديل أو تغيير لمضامينها لتحتفظ براهنيتها الاتهامية القائمة على نظرية المؤامرة، لاسيما في اعتماد اسم الفيروس التاجي أو حتى ووهان-400، ففي تقرير أصدرته صحيفة من هونغ كونغ اسمها: «ساوت شينا مورنينغ بوست»، أكدت أن الرواية أطلقت اسم ووهان-400 بعدما كانت أطلقت على الفيروس «جوكي-400» نسبة لمدينة روسية قام الروس بتصنيع الفيروس بمختبراتها، وهو ما اعتمدته النسخ القديمة من الرواية، ويستبعد أن تكون أمازون هي من غيرت اسم الرواية، وذلك ما أكدته الصحفية (كيت وايتهايد) في تقريرها بكون التغيير الذي حصل في تسمية الفيروس من جوكي إلى ووهان جاء في نسخة 1989م من قبل المؤلف نفسه الذي كشف عن نفسه بعدما كان قد أصدر الرواية باسم مستعار سنة 1981م، وهو أمر يطرح أكثر من علامة استفهام حول ما إذا كنا إزاء عمل أدبي إبداعي أم عمل استخباراتي بطرق ناعمة.

أما ما سوى ذلك من الوقائع التي تسوقها الرواية عن الفيروس، تبدو أبعد عن الحقيقة، حيث تفترض الرواية أن الفيروس من صنع الإنسان وهو ما يصعب تأكيده أو نفيه لحد الآن، رغم أن هناك دعوات لفتح تحقيق دولي في الموضوع، كما أن معدل الوفيات لحد الآن أقل بكثير مما تفترضه الرواية بحيث لم يتجاوز 3 في المائة من المصابين بالعدوى، كما تختلف فترة الحضانة في الرواية، إذ تصل إلى أربع ساعات بينما تصل حضانة فيروس «كورونا المستجد» كوفيد 19 إلى أربعة عشر يوما.

 

ومع ذلك فإن تسمية الفيروس وربطه بمدينة ووهان الصينية واستخدام الكاتب توصيفات علمية دقيقة ومتخصصة استقاها من علماء الأوبئة، ما جعل الكتاب يسوق من قبل شبكة أمازون ومن قبل الكثير من وسائل الإعلام بأنه حقق سبقا في التنبؤ بأخطر وباء فتاك حل بالبشرية في العصر الحديث.

2- فيلم عدوى ((Contagion: للسيناريست «سكوت زي بيرنز» الذي عرض عام 2011، تدور أحداث الفيلم عن فيروس يدعى (MEG-1) تحول إلى وباء عالمي بعدما انتقل من خفاش إلى خنزير ثم إلى إنسان لم يغسل يديه قبل مصافحة إنسان آخر، وتذكر وقائع الفيلم أن معدل وفيات الفيروس مرتفع جدا، إذ يصل إلى خمس وعشرين وإلى وثلاثين بالمائة، ومدة حضانته تصل إلى ثلاثة أيام.

ويتم الترويج للفيلم إعلاميا على أنه عمل درامي تنبأ بالفيروس قبل وقوعه، ومن الواضح أنه استوحى الكثير من الحقائق العلمية المتعلقة بالفيروس المذكور من المعلومات المتوفرة عن الأنفلونزا الإسبانية لعام 1918م.

ويذكر سكوت أنه استشار خبراء الأوبئة ومنظمة الصحة العالمية قبل كتابة السيناريو، وأن التشابه بين وقائع الفيلم وجائحة «كورونا المستجد» محض صدفة لا أكثر

وتظهر جدية المعلومات التي يقدمها الفيلم في تشابه ظروف نشأة الفيروس (MEG-1) مع كوفيد19، فقد نشأ في سوق رطبة للحيوانات بالصين، ثم انتقل للإنسان من الحيوان (الخنزير والخفاش)، وهي فرضية قائمة بالنسبة لكوفيد19 لكنها تظل غير مؤكدة بمقدار الشكوك حول أصل الفيروس، هل هو طبيعي أم مصنع ضمن المختبرات؟ وهل الفيروس مصدره الخفاش أم أن هذا الأخير مجرد ناقل للعدوى؟ وهل اقتصر دوره حينها على نقل العدوى فقط أم أن الفيروس عرف طفرة جينية قبل انتقاله للإنسان؟ هذه كلها أسئلة لم يتسن التأكد منها بعد، لكن فيلم عدوى يطرح روايته التي لا تخرج عن سياق الفرضيات المطروحة.

طرق الانتقال للعدوى التي يطرحها الفيلم مشابهة لطرق انتقال «كورونا المستجد» كاللمس سواء بالمصافحة أو لمس الأشياء الملوثة بالفيروس، وكذلك الرذاذ الناتج عن العطاس أو السعال.

وتظهر ضمن الفيلم شخصية محصنة ضد الفيروس يجسدها الممثل الأمريكي «مات ديمون»، وهو زوج مريضة بالفيروس، وهذا أمر غير متحقق لحد الآن على الأقل في الواقع مع فيروس «كورونا المستجد»، بل إن ما تظهره بعض التقارير الصادرة من الصين أن أشخاصا تعافوا من الفيروس ثم أصابتهم العدوى من جديد، وهذه قضية لا يمكن تبنيها ولا يمكن نفيها في الآن ذاته بسبب ما تتطلبه الدراسة العلمية من تواتر التجارب وعدم الاعتماد على تقارير تعتمد حالات فردية محدودة.

وتظهر في الفيلم مقترحات لاعتماد «فورستيا» وهي صبغية الأزهار كدواء لعلاج الفيروس، وهو ما لم تؤكده أي تقارير طبية نجاعته في علاج «كورونا المستجد» رغم وجود ادعاءات بوجود علاجات طبيعية ترتفع بين الفينة والأخرى، بل تظل حتى العلاجات الرئيسية المستعملة من قبل بعض الدول كالكلوروكين وهيدروكسي كلوروكين موضع تشكيك ومعارضة من الكثير من الأطباء.

وتتقارب المدة المفترضة في الفيلم للحصول على لقاح فعال مع المدة التي تطرح في الواقع من قبل مختبرات الأدوية وهي في غضون شهور إلى سنة.

غير أن الفيلم تضمن مبالغات في تقدير الأعراض الناتجة عن الفيروس والتي تتجاوز بكثير أعراض «كورونا المستجد» إلى حالة الهيستيريا والعض والدماء، وما يصاحب ذلك من اضطرابات ونهب وتخريب لمنشآت المدينة، وهو أمر بعيد المنال في وقائع جائحة «كورونا المستجد» التي عرفت حضورا قويا للأجهزة الأمنية والفرق العسكرية لتدبير ظروف الحجر الصحي بمختلف دول العالم بحيث قلت معه الجريمة بشكل غير مسبوق في العالم.

3- كتاب «ساعتنا الأخيرة إنذار من عالم»: صدر لمؤلفه مارتن ريز سنة 2004، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي: تضمن الكتاب مقدمة وخاتمة وإحدى عشر عنوانا في المتن، وهي كالآتي:

-صدمة التكنولوجيا- ساعة الحساب – تهديدات ما بعد 2000: الإرهاب والخطأ.

-الجناة والمسكنات – كبح مسار العلم – خط الأساس للمخاطر الطبيعية: الاصطدام بالكويكبات – تهديدات البشر لكوكب الأرض – مخاطر قصوى: رهان باسكال.

-فلاسفة يوم الحساب – أهي نهاية العلم؟ – هل لمصيرنا أهمية كونية؟

-ما بعد كوكب الأرض.

يرى مارتن ريز أن العلم يتقدم بمعدل سريع على ثلاث جبهات: تكنولوجيا حيوية، وتكنولوجيا سيبرية، ونانوتكنولوجيا، إلا أن القضية التي استأثرت باهتمامه هي الجوانب المظلمة للعلم، فالعلم الجديد قد تكون له نتائج غير مقصودة، فالجانب السيء من تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين قد يكون أكثر استعصاء على العلاج من السلاح النووي الذي ظل مشكلة النصف الثاني من القرن العشرين بامتياز.

ويحدد مارتن ريز غرضه من تأليف الكتاب، وهو التركيز على مخاطر القرن الواحد والعشرين التي تقل درايتنا بها حاليا، والتي يمكن أن تكون أكثر تهديدا للبشرية وللبيئة الكونية. ورغم أن مارتن ريز عالم كونيات إلا أنه عمل على تضمين كتابه بجملة من التوقعات أو بالأحرى التحذيرات التي تشمل مجال البيولوجيا والتكنولوجيا الحيوية، وقد جسد في هذا الكتاب صورة الرجل الأمريكي المسكون بهواجس لا تنتهي من التحديات، فما يكاد يضمحل قلقه من تحدي حتى تنقدح له تحديات أخرى، فيستحضر ريز هواجس الحرب الباردة وما حملته من تهديدات نووية مازالت قائمة وإن تراجعت حدتها، كما يستحضر خطر الكويكبات في صورة كويكب مارق يصطدم بالأرض ويحدث دمارا هائلا أو يعجل بنهاية الحياة على وجه الأرض

وسنركز من جملة توقعات مارتن ريز في كتابه «ساعتنا الأخيرة» على ما يوصف بأنه تنبؤ بجائحة «كورونا المستجد»، دون سواه.

ففي سياق أحداث 11 شتنبر 2001 الذي يعد حدثا أعاد تشكيل العقل الأمريكي في علاقته بالعالم وأعاد صياغة تصوراته عن قضايا الإرهاب وصدام الحضارات، دبج ريز هذا الفصل الذي استهله بالعبارات التالية:

«تهديدات ما بعد 2000: الإرهاب والخطأ. خلال عشرين عاما سيصبح من الممكن بسب إرهاب بيولوجي أو خطأ بيولوجي قتل مليون فرد. ما الذي ينذر به ذلك الأجيال اللاحقة؟»

يلفت ريز أنظار الرأي العام الأمريكي إلى ما هو أخطر من التهديد النووي وهي المخاطر التي تنشأ عن الميكروبيلوجيا والوراثيات، دون أن يفوت الفرصة للمز دول تواصل –في اعتقاده- تطوير برامج هجومية كالعراق، ويسوق المؤلف في معرض التحذير من الخطر البيولوجي بوصفه خطرا جديا تتجاوز قدرته التدميرية السلاح النووي، نموذج البرنامج البيولوجي السوفياتي (بيوبريبات) الذي كان (كاناتاجان أليبيكوف) واحدا من خبرائه قبل لجوئه للولايات المتحدة سنة 1992م، وتغيير اسمه، حيث ألف كتابه: المخاطر البيولوجية، والذي روى فيه تفاصيل المجهودات التي بذلت لتحوير الجراثيم لجعلها أكثر قدرة على العدوى وأكثر مقاومة للقاحات المضادة، وقد تسبب المختبر الروسي الذي احتضن البرنامج في ست وستين حالة وفاة غامضة سنة 1979م بسبب تسرب جراثيم الأنثراكس.

ويرى الكاتب أن خطر الأسلحة البيولوجية يكمن في أنه لا يحتاج لدولة أو منظمة قوية لحيازته، بل يمكن أن يقوم بذلك أفراد من خلال مواد أو تقنيات وخبرات لها استخدام مزدوج في مجال الزراعة والطب، فالسلاح النووي أيضا له استخدام مزدوج، لكنه يتطلب للتحول من الاستخدام المدني لإنتاج الطاقة إلى تصنيع قنبلة نووية سلسلة عمليات طويلة وأجهزة معقدة للتخصيب، ليست في استطاعة أغلب دول العالم فما بلك بالأفراد والمنظمات، والأمر يختلف فيما يتعلق بالأسلحة البيولوجية كما يقول (فريد أيكل): «المعرفة والتكنيكات اللازمة لصنع أسلحة بيولوجية مفرطة القوة ستصبح موزعة في كل مكان، بين معامل المستشفيات ومعاهد الأبحاث الزراعية، والمصانع السلمية. ولن تتمكن إلا شرطة دولية بوليسية قامعة من الاستيثاق من تحكم الحكومة تحكما كاملا في هذه الأدوات الجديدة للدمار الشامل

 

ويحذر الكاتب من تنامي تكنولوجيا تخليق فيروسات بالتصميم، «فإذا تعاقب ظهور فيروسات مهندسة مختلفة لا توجد مناعة ضدها ولا علاج، فقد يكون لها تأثير كارثي على نطاق العالم، يكون حتى أكثر كارثية من تأثير الإيدز الآن في إفريقيا، وقد يكون مساويا مثلا لتأثير فيروس جذري ليس له فاكسين، أو حتى فيروس مما ينتشر بسرعة أكبر من الجدري نفسه، أو تنويع من الإيدز تنتقل عدواه مثل انتقال الأنفلوانزا، أو نوع من الإيبولا لا تطول فترة حمل المريض له.» ويلفت ريز الانتباه إلى مكمن الخطر هو أن القدرة على تصميم الفيروسات المستجدة لا توازيها قدرة مماثلة في تصميم وإنتاج فاكسينات ضدها، والأخطر من ذلك أنه يمكن تطوير سلالات بكتيريا لها مناعة ضد المضادات الحيوية، بل إن هناك بكتيريا من هذا النوع تنبثق بشكل طبيعي كنوع من الطفرات الطبيعية.

 

إن ما يقدمه ريز ليس عملية تنبؤ، سواء تعلق الأمر بصور التنبؤ العلمي أو ما يتعلق بالتنبؤات الانطباعية، وإنما يندرج مسلكه ضمن ما يمكن تسميته بالمستقبليات التحذيرية إذ يقدم توقعات لا ينتظمها سيناريو مكتمل من الناحية المنهجية والتقنية، بل هي توقعات مرسلة على طريقة العلماء والخبراء الموسوعيين، يستند في صياغتها على خبرته العلمية وسعة اطلاعه وإحاطته بالظاهرة، فلا يستطيع أن يقدر أخطار العلم إلا العلماء والخبراء، ممن خبروا دروب البحث المخبري وقضوا في كنفه دهرا طويلا يؤهلهم لتأليف رؤى استشرافية تحذيرية حتى يكون صانع القرار على دراية بها لاتخاذ الخطط اللازمة لتفادي الأخطار واجتراح الحلول الناجعة حال الضرورة.

وأما ما تضمنه عنوان الفصل الثاني من الكتاب من الإشارة إلى رقم 20 فلا يخرج عن توظيف سحر الرقم 20 الذي يعد ولعا مشتركا لدى الكثير من الباحثين المستقبليين الغربيين لا يضاهيه إلا سحر عام 2000 وما كتب حوله من الدراسات والنبوءات التي وصلت حد التنبؤ بنهاية العالم حينها من قبل بعض المولعين بأحاديث النهايات وسردياتها المثيرة.

لكن التوقعات المرتبطة بالخطر البيولوجي للفيروسات سواء كانت طبيعية أو مصممة ضمن مختبرات يعد مصدر قلق مشترك للكثير من الباحثين البيولوجيين وغيرهم، ممن يدركون القدرة التدميرية للفيروسات المعدية، وحجم الخطر الذي يمكن أن تشكله على مستقبل الإنسانية سواء نتجت عن خطأ علمي أو عن تهديد إرهابي، وما ساقه من حديث عن الفيروسات المستجدة أو المعدلة حقيقة قائمة تعيشها البشرية اليوم مع فيروس «كورونا المستجد» الذي يظل اللبس قائما حول بواعثه هل هي تلقائية أم نتيجة خطأ مخبري أم أنه هجوم متعمد بحسابات سياسية قائمة، وكلها فرضيات متداولة من قبل الإعلام العالمي وإن كانت الفرضية الأخيرة أقل حضورا بسبب فظاعتها، فتجربة الإنسان المعاصر مع الأوبئة الفتاكة التي ضربت العالم على الأقل في العقود الأخيرة تجعل من التنبؤ بالأوبئة والتحذير من مخاطرها وتأثيرها على حياة الإنسان وعلى المجتمعات البشرية عملا ذا مصداقية كبيرة، فأمام هذه السيرورة من التطور البيولوجي وانخراط المزيد من بلدان العالم في السعي لامتلاك التكنولوجيا الحيوية بالموازاة مع باقي التكنوليوجات الأساسية الأخرى، فإنه لا حدود لمخاطر العلم المتوقعة، وكل الاحتمالات تظل مفتوحة بما فيها الاحتمالات السيئة والمدمرة وهذه الأخيرة هي التي تولى (مارتن ريز) رصدها والتحذير منها.

 

ثانيا– هواجس الاستشراف في زمن «كورونا المستجد»:

تنزيل نسخة معدلة ذات جودة عالية لمجلة منار الهدى العدد التاسع عشر

نهجت جل دول العالم سياسة الإغلاق والحجر الصحي تدبيرا أساسيا ضمن عدة إجراءات وتدابير لمواجهة تفشي الجائحة، فشكل الحجر الصحي داخل البيوت وضعا مشتركا، فرض أنماطا جديدة للتواصل في ظل التباعد الاجتماعي، ليشكل الفضاء الافتراضي أفقا واسعا للسباحة والتجديف، بعدما ضاق الأفق المكاني ولم يعد رحبا بمقدرا سعة العوالم الافتراضية، تلك الجغرافيا الجديدة التي اكتشفها الإنسان المعاصر واللامحدودة بقيود المكان والزمان، والتي تصفها مارغريت فيرتهام Margret Wertheim بالقوة المتعاظمة لوغاريتميا التي تنفجر أمام أعيننا بقوة مذهلة تماما كما انفجر كوننا في فضائه المادي من لا شيء قبل خمسة عشر مليار سنة. ولا يعني ذلك أننا إزاء عوالم بديلة سحرية عن الواقع المكاني رغم كل الإغراءات والتشابكات التي يقدمها، وإنما يشكل ذلك امتدادا حقيقيا معززا للأبعاد المتعلقة بالمكان والزمان، وموسعة لدائرة الفعل البشري، فمن دون شك فإن شبكة الأنترنيت أتاحت للإنسان في ظل الحجر الصحي إمكانية الاستعاضة ولو جزئيا عن الواقع الفعلي للتخفيف من الآثار النفسية والاجتماعية للتباعد الاجتماعي، كما أتاحت الحصول على الكثير من الخدمات والمنافع عن بعد، سواء منها: الإعلامية والتعليمية والثقافية والاقتصادي… لكن ما يخشى منه في هذه المرحلة أن تتشكل ملامح ما يمكن تسميته ب»الإنسان السيبيري»، بحيث تتعزز العزلة الاجتماعية لبعض الفئات الاجتماعية، لاسيما الشباب، اعتقادا منهم أو توهما بأن العالم الافتراضي بكثافته وأضوائه وتشعبه وسرعة التفاعل ضمنه، يمكن أن يكون بديلا عن الواقع الاجتماعي بعلاقاته وشخوصه وقيمه وقوانينه وقيوده، وهذه المخاطر ترتفع كلما طالت مدة الإغلاق والتباعد الاجتماعي. ورغم كل الوظائف التي يضطلع بها المجال السيبيري فإن أحد إيجابياته النظرية على الأقل، أنه بات يحدد لنا بشكل نسبي اتجاهات رواده وربما أمكن المعنيين بالثقافة والسياسة والاقتصاد والترفيه تتبع اهتمامات رواده وفق ما يوفره الأنترنيت من أرقام وإحصاءات بهذا الشأن، ولعل من بين هذه الاهتمامات في زمن الجائحة، هو أن يصبح التساؤل عن ما بعد «كورونا المستجد» سؤالا مشتركا بين مختلف رواد الشبكة، وهو سؤال يلخص تطلعا استشرافيا للجمهور تجاه المستقبل القريب، وإن كان الجميع لا تحركه الخلفية نفسها، فالبعض لا يعنيه من السؤال سوى لحظة حصول الفرج وارتفاع القيود المفروضة، وآخرون معنيون بتأثير الجائحة على الوضع المحلي كليا أو قطاعيا، بينما ينشغل الكثير من المثقفين والباحثين بصورة العالم ما بعد «كورونا المستجد».

 

وارتباطا بموضوعنا المتعلق برصد اتجاهات وأبعاد الرؤى والتصورات الاستشرافية الصادرة في ظل الجائحة، فقد كان الإقبال في ظل هذه الأزمة كبيرا لحد السيولة، على كتابة مقالات ذات بعد أو مغزى استشرافي أو على الأقل من خلال ما توحي به عنواوينها، وليست جميعها على وزان واحد من حيث القيمة العلمية والانضباط المنهجي بمقتضيات الدراسة الاستشرافية وقواعدها العلمية، فالغالب عليها أنها دراسات انطباعية، والجادّ منها ينخرط ضمن مجال الخبرة الاستراتيجية التخصصية لأصحابها، ونرصد في المحاور الآتية أهم اتجاهات هذه الأعمال:

1- استشراف تطور الحالة الوبائية للجائحة: صدرت خلال هذه الفترة العديد من المقالات والتقارير والتصريحات بشكل يومي، وقسم منها صادر عن ذوي الخبرة الصحية من أطباء وباحثين بيولوجيين أو مهتمين بتدبير السياسات الصحية أو رصدها، فأما التقارير والمقالات العلمية المتعلقة بالفيروس، فالغالب أنها تفتقر لليقين العلمي -أو ما يقاربه- الذي يطبع البحث التجريبي بشكل عام، والبحث الطبي المخبري بشكل خاص، فجاءت الكثير من الرؤى الاستشرافية مترددة ومتضاربة لا بخصوص طبيعة الفيروس وطرق انتشار العدوى وسبل الوقاية منه، بل وصل التضارب والتشكيك حتى بخصوص بعض الأدوية التي اقترح اعتمادها لفعاليتها المفترضة، وكذلك المدة الكافية للتوصل للقاح التي تتراوح بين أشهر إلى سنوات حسب منظورات متعددة، وكل هذا التضارب والتردد كان له انعكاس كبير على اضطراب الدول في السياسات والتدابير المعتمدة لمواجهة الوباء.

ولعل من الأعمال الرصينة التي صدرت بخصوص رصد واستشراف الظاهرة، على مستوى المغرب، الدراسة التي أنجزها مجموعة من الباحثين بالمدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية بجامعة شعيب الدكالي بالمغرب، تتعلق باستشراف تطور الحالة الوبائية للمغرب لفيروس «كورونا المستجد»، استندت الدراسات على قاعدة البيانات المتوفرة من قبل الجهات الرسمية منذ اكتشاف أول حالة بالمغرب بتاريخ 2 مارس 2020 إلى حدود 13 أبريل حيث سجلت 1763 حالة إصابة و126 وفاة، وقد وضع الباحثون ثلاث سيناريوهات لرصد تطور الوباء ترتكز على معامل رئيسي وهو معدل التماس بين الأصحاء والمرضى المتسبب في انتقال العدوى، (Contact Rate) ويتم قياسه من خلال رصد درجة احترام المواطنين للحجر الصحي الذي أقرته السلطات الصحية.

ولا تخرج السيناريوهات الثلاثة معياريا عن التقسيم الثلاثي الشائع لبناء السيناريوهات والمشاهد في حقل الدراسات المستقبيلية، فجاءت كالآتي:

أ-السيناريو المفضل (Normative or preferable): وهو سيناريو يوصف عادة بأنه معياري، ويفترض أنه لو طبق المغرب إجراءات الحجر الصحي منذ ظهورالحالة الأولى بطريقة حازمة وصارمة بنسبة مائة بالمائة، لأدى الأمر إلى انحسار المرض في مهده. وهذا السيناريو مثالي وغير واقعي البتة لفوات الأوان، لاسيما وأن عامل الزمن واستباقية الإجراءات حاسمة في التعامل مع الجائحة، لكن يحضر هنا ما يسمى في علم النفس بالتفكير الرغبي (Wishful thinking).

ب- السيناريو الممكن أو الاتجاهي (Possible): وهو الذي يعكس مآلات تطور الحالة الوبائية أو الظاهرة المدروسة بشكل خطي استنادا لفرضية استمرار الإجراءات الرسمية المعلن عنها، فنحن إزاء عملية رصد واقعي يفترض أن درجة احترام الحجر الصحي تتم بنسبة 50 في المائة، بالنظر إلى أن المغرب يعيش حالة إغلاق جزئي يسمح باستمرار الحالة الاقتصادية والإدارية والخدمية وحتى الاجتماعية في حدود معينة، وحسب هذا السيناريو المستند على دراسة الإجراءات الرسمية في الفترة الممتدة من 2 مارس و13 أبريل، فإنه يفترض أن يسجل ما يلي:

-ارتفاع حالات الإصابة بالمرض إلى 2500 حالة بحلول 29 أبريل 2020.

 

-تسجيل 0 حالة بتاريخ 10 ماي 2020.

وتبدو مخرجات هذا السيناريو أقرب لنتائج دراسة لاحقة نشرتها جامعة سنغفورة للتكنولوجيا والتصميم تتوقع أن تكون نهاية الوباء بالجزائر في 13 مايو، علما أن الحالة الوبائية للجزائر متشابهة مع المغرب، كما تتقارب الإجراءات المتخذة بين البلدين.

ج-السيناريو المحتمل أو الأسوأ (Parobable): وهو في حالة إذا تدنت نسبة احترام الحجر الصحي إلى 20 في المائة من المواطنين، فحينها يتوقع أن تصل عدد الإصابات 45000 حالة بحلول 28 ماي 2020، كما يفترض أن تتزايد حالات الوفيات بشكل كارثي.

ورغم أن الدراسة لم تنشر منها سوى تقارير مختصرة وموجزة بوسائل الإعلام الرقمي، إلا أنها تضمنت أهم العناصر العلمية اللازمة لتغذية السيناريوهات، فقد استندت منهجيا على مقاربة كمية توظف النمذجة الرياضية التي تمزج بين علمي: الإحصاء (Statistics) والأنظمة الديناميكية (Dynamical systems)، واعتماد السيناريوهات على معامل مشترك وهو درجة احترام الحجر الصحي والتباعد بين الأفراد مع ربط تطوره حصريا بدلالة زمنية محددة، تتضمن استنتاجات محددة، على شاكلة نمط نمذجة (Modilisation) نظم انتشار الأوبئة، التي تهدف إلى مساعدة صناع القرار في صياغة استراتيجية فعالة للقضاء على الوباء أو التخفيف من آثاره المدمرة، دون أن يعني ذلك أن السيناريوهات المقدمة لم تنطو على نقائص تلاحق الدراسات الاستشرافية والاستراتيجيات التي تستند على معطيات كمية رياضية، تظل تفتقر بالضرورة لتعزيزها برؤى معيارية ترتبط بجوانب إنسانية مؤثرة تتعلق بالعامل الديني والأبعاد الثقافية والسوسيولوجية والسيكلوجية وغيرها. وهذه الجوانب باتت أكثر استحضارا في حقل الاستشراف فيما يعرف بالمستقبليات التكاملية، وهو عامل لا يمكن الزعم بافتقاده كليا في الدراسات الكمية مثلما لا يمكن الادعاء باستحضاره بصورة علمية كافية.

ويبدو من خلال تتبع توقعات الدراسة أنه كان يمكن بناء سيناريو رابع وهو (السيناريو الأقرب للوقوع) من خلال استحضار بعض التطورات المتوقعة التي هي بالأساس ناتجة عن دراسة طبيعة صناعة القرار في المغرب وتوقع سلوك الفاعل السياسي، ودراسة سلوك الفاعل الاجتماعي والتوقعات حول السلوك الاجتماعي في ظروف الأزمة، وإلى أي حد يمكن الالتزام بحالة الحجر الصحي، وسبل قياس ذلك، وهل سيكون بنسب ثابتة أم متذبذبة تتفاوت من مرحلة إلى أخرى من مراحل تطور الحالة الوبائية؟ أما السيناريو الثالث فيظل مستبعدا بالنظر لبطء انتشار الوباء بالمغرب، بينما السيناريو الثاني يبقى مرغوبا فيه لكنه أبعد عن التحقق وسيصبح مع مرور الوقت متجاوزا، وطبيعة الوقائع والأرقام تبين أن القضاء على الفيروس كليا بنسة 0 تفاؤل مبالغ فيه، ويؤكد ذلك مجموع حالات الإصابة التي تجاوزت 4500 بحلول 1 ماي، وهو مخالف للمتوقع في السيناريو الثاني وهو 2500 بحلول 29 أبريل، مما يدل على أن تحقق نتيجة السيناريو الممكن تتطلب فترة أطول قد تصل إلى نهاية شهر يونيو 2020 أو تزيد عن ذلك، دون أن يسجل المغرب ذلك الرقم المهول الذي توقعه السيناريو الثالث وهو45000 إصابة بحلول 28 ماي.

2- استشراف الوضع الاقتصادي: يعد الاقتصاد أهم عامل يتم استحضاره في ظل الجائحة بعد العامل الصحي، وقد نشر في الأسابيع القليلة الماضية العديد من الدراسات والمقالات التي ترصد الوضع الاقتصادي المحلي أو الدولي في ظل الجائحة والآثار المحتملة على الوضع الاقتصادي العالمي، ومن بين الدراسات العربية التي صدرت في هذا الشأن، دراسة بعنوان: «ماذا ينتطر العالم بعد «كورونا المستجد»: سيناريوهات» للدكتور وائل شديد» والتي نشرها مركز الصفوة للدراسات الحضارية، حاول الباحث أن يجيب عن جملة من الأسئلة تتعلق بالعواقب الاقتصادية الناجمة عن الوباء، وتحديد المستفيدين والمتضررين من الجائحة، مع رصد أهم السيناريوهات.

 

يرصد الباحث العديد من القطاعات الاقتصادية الأكثر تضررا وعلى رأسها قطاع السياحة والخدمات وأسواق المال والأسهم وقطاع النقل والملاحة الجوية، وهي قطاعات تسير في طريق الانهيار كلما طالت حالة الإغلاق الشاملة، لكن الخسارة الأكبر للاقتصاد تأتي من العامل البشري وتزايد حالات الوفيات.

أما على المستوى الدولي فيبدو أن الاعتماد المتبادل بين الدول سيعيش حالة ركود غير مسبوق، وهو ما سينعكس على تراجع الاقتصاد العالمي وتراجع نسب النمو، وتبدو الصين ذات الاقتصاد الأكثر نموا في العالم هي الأقدر على استعادة عافيتها من بين القوى الرأسمالية الكبرى، رغم حجم الضرر الذي سيلحق اقتصادها.

ويرصد الباحث أثر السياسيات الصحية المنتهجة على الاقتصاد ومنها سياسة مناعة القطيع التي اعتمدتها بريطانيا ثم تخلت عنها بعد ثبوت فشلها، ويسوق عددا من التوقعات لخبراء غربيين تتعلق بما بعد «كورونا المستجد»، منها:

ما عبر عنه (ستيفن وولت) من انغلاق الدول على حدودها، بحيث يصبح العالم أقل ازدهارا وأقل نماء وأقل حرية، وأن العولمة ستتراجع بشكل مفرط، وربما لن يعود العالم إلى العولمة ذات المنافع المتبادلة كما يرى (روبل نيبلت). أو ربما تسرع الجائحة من تشكل عولمة متمحورة حول الصين بدل الولايات المتحدة كما يرى (كوشر محبوباني) وهو ما يفترض تحولا للسلطة إلى الشرق بدل الغرب، غير أن هذا الانتقال قد لا يكون سلسا، بل يمكن أن يدخل العالم في معركة صفرية بين القطبين إثر عدم تقبل الولايات المتحدة لأي تحول في الوضع الجيوسياسي العالمي، كما يدل على ذلك سلوك إدارة الرئيس دونالد ترمب.

كما ساق الباحث ثلاث سيناريوهات، وعمل في كل سيناريو على تغطية الجوانب التالية: حدود الفترة الزمنية للسيناريو، والآثار على النظام الاقتصادي العالمي، والتغيرات في الوضع الجيوستراتيجي الدولي، والتحولات الجيوسياسية للحكومات المحلية، والتغيرات على الدول النامية.

وبينت الدراسة أن عامل الزمن في السيطرة على الوباء سيكون له دور حاسم في رجاحة السيناريو، وأنه في جميع الأحوال فإن تغيرا سيحدث للنظام الاقتصادي العالمي، وسيترتب عنه تغيير في العلاقات الجيوستراتيجية الدولية، إضافة إلى تحولات في المكونات الجيوستراتيجية للدولة الواحدة والدول النامية. وفي حال طال زمن احتواء الجائحة، فإن تغيرات جذرية ستطول النظامي الاقتصادي والسياسي العالمي، ويلفت الكاتب الانتباه إلى حدود الدراسة، وأنها جاءت محاولة لفتح الآفاق والمساهمة بتقديم بعض التوقعات في ظل هذا الظرف المعقد والضبابي.

ولا تخرج الدراسة في مجملها عن المنظورات الاستراتيجية والاقتصادية السائدة سواء في تحليل واقع الأزمة أو في تلمس آثارها المترتبة عنها، وهي أقرب إلى التوقعات المبنية على التحليل الكمي للمتغيرات الحاكمة، وإن لم يجرد الباحث بدقة طبيعة هذه المتغيرات ومستوياتها، وغالبا ما يوجه النقد لهذا النمط من التحليلات بكونها ذات طابع قطاعي وليست هذه مشكلة في حد ذاتها، بل المشكلة هو أن يعتمد على العامل الاقتصادي بشكل أحادي لبناء سيناريوهات تستهدف استشراف مستقبل الشعوب في مراحل تاريخية فارقة، ويسود الاعتقاد في الأوساط الرأسمالية أن الاقتصاد هو المحرك الأساسي للمتغيرات العالمية وهو كلمة السر، ولذلك من الطبيعي أن الاستشراف بنكهة رأسمالية يركز أساسا على النمو والوفرة وسبيله في ذلك توظيف البيانات الكمية وتجميعها ودراستها في عالم يستحيل فيه البشر إلى مجرد أرقام قابلة للزيادة والنقصان حسب ما تقتضيه المصالح الاقتصادية القومية.

 

3- استشرافيات «ما بعد «كورونا المستجد»»:

إن المتتبع لما كتب في فترة الحجر الصحي من مقالات وتقارير وفيرة تتناول ما بعد جائحة «كورونا المستجد»، وذلك من خلال الرصد عبر محرك البحث كوكل. والكثير من هذا الأعمال كتبت بهاجس استشرافي، ما يجعل من الاستشراف هاجسا قويا من هواجس زمن «كورونا المستجد»، وتتميز هذه الأدبيات التي أطلقنا عليها «استشرافيات ما بعد «كورونا المستجد»» بأربع نزْعات أساسية:

أ- نزعة انتقادية تحذيرية: وهي امتداد لجهود سابقة درجت على توجيه النقد اللاذع للنظام الدولي الرأسمالي ولأقطابه، وخاصة الولايات المتحدة وأوربا، وإذا كانت النزعة النقدية في الدراسات    المستقبلية تهتم أساسا بتغييب البعد الثقافي والمنظورات الحضارية المتعددة ورؤى الشعوب، فإنها لا تختلف عن المنظورات النقدية الأخرى لاسيما المنظور الاشتراكي وكثافة النقد الذي وجهه للرأسمالية علاقة بتركيزه على نمط توزيع الثروة بدل التركيز على النمو والوفرة الإنتاجية، وهو المسعى الذي عبر عنه تقرير نموذج باريلوتشي الصادر في ثمانينات القرن الماضي بالأرجنتين، كرد فعل من خبراء ومثقفي العالم الثالث على نموذج نادي روما وتوابعه.

ونظرا لكثافة التقارير والمقالات النقدية التي صدرت في هذه المرحلة والتي لا يسع الباحث تتبعها جميعا، ولذلك سأكتفي بالإشارة إلى نموذج رائد في نقد النظام الدولي الرأسمالي، وهو عالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي، حيث أعدت صحيفة الأندنبندنت تقريرا عن مقابلة أجراها في حلقة خاصة مع (DIEM25 TV) حذر فيها من السباق نحو الكارثة بسبب المضاعفات الاقتصادية والاجتماعية للوباء، كما أعاد التنبيه إلى تزايد مخاطر التهديد النووي ومخاطر الاحتباس الحراري، محذرا من عودة السلطوية والإجهاز على الديمقراطية، كآثار محتملة لسياسات الإغلاق المشدد في أوربا، ولم يفوت الفرصة لتوجيه سهام النقد لسياسات الولايات المتحدة بقيادة ترمب، وما تخلفه من رعب يضاهي الرعب النازي، منتقدا بشدة التباطؤ الأمريكي والأوربي غير المسؤول في التعامل مع الوباء بسبب الحسابات الاقتصادية للنيولبرالية التي تحكم العالم، «خشية الخسائر التي سيتسبب بها العزل الاجتماعي، وإغلاق المؤسسات والشركات وتعطيل الحياة العامة ولمنفعة هؤلاء الأثرياء. وبسبب عقلية اقتصاد السوق، فضلت شركات الأدوية تصنيع كريمات البشرة على إيجاد لقاح أو علاجات للأوبئة المحتملة لأنها أكثر ربحاً. هم كانوا يعرفون منذ تفشي فيروس السارس بوباء «كورونا المستجد» المحتمل. فقد تم القيام بأبحاث منذ فيروس السارس وتم تحديد التسلسل الجيني لسلالة سارس، والتي ينتمي إليها فيروس «كورونا المستجد» باعتبارها تطورا جينيا محتملا للسلالة، تم التأكد منه. ماذا حدث؟ لم تعمد الحكومات وشركات الأدوية العملاقة على الانكباب لتصنيع العلاجات أو اللقاحات لحماية الناس».

ويدعو تشومسكي بإلحاح إلى أن التقدم إلى الإمام يقتضي الإجابة عن سؤال: أي عالم نريد؟ ويرصد جملة من الخيارات التي تتراوح بين تركيب استبدادي للغاية تتحول فيه الدولة إلى وحش، أو خيار الراديكالية وإعادة إعمار المجتمع، أو الخيارات الإنسانية التي تغلب الاحتياجات البشرية على المنافع الاقتصادية للأثرياء والمنظومة النيولبرالية.

ويشدد تشومسكي على استثمار اللحظة لاستعادة الوعي بالتحديات العميقة التي تواجه الإنسانية، «فالعالم معيب وليس قوياً بما فيه الكفاية للتخلص من الخصائص العميقة المختلة في النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي كله، واستبداله بنظام عالمي إنساني كي يكون هناك مستقبل للبشرية قابل للبقاء». لكنه يعتقد أن فيروس «كورونا المستجد» «علامة تحذير ودرس للبشرية، وعلينا أن نبحث في الجذور التي تؤدي إلى الأزمات، التي ربما تكون أسوأ مما نواجهه اليوم، والتحضير لكيفية «التعامل معها ومنعها من الانفجار».

 

ب- نزعة تشاؤمية: هناك فرق بين النزعة النقدية والنزعة التشاؤمية، ففي حين تطرح الرؤى النقدية خيارات مفتوحة على أفق إنساني أكثر إيجابية، فإن النزعة التشاؤمة تقع في فخ الحتميات إذ لا ترى فكاكا أو خلاصا من وقوع الأسوء، أو حلولا للكارثة، وهو خطاب درج عليه الكثير من الباحثين والمثقفين حول العالم لاسيما في العالم الثالث، بسبب اليأس المزدوج من إمكانية إصلاح المنظومات المحلية أو إصلاح النظام الدولي الرأسمالي. يتقمص الخطاب التشاؤمي أحيانا طابعا استشرافيا كما تجسد ذلك ما بعديات «كورونا المستجد»، إذ يرى أن العالم بعد «كورونا المستجد» سيكون أسوأ، وأن المستقبل مظلم وقاتم، وربما استلهم بعض الرؤى التي تتحدث عن صدام نووي وشيك بين الصين والولايات المتحدة على الزعامة في معركة صفرية، وهو رأي تغذيه الخطابات العدوانية لإدارة الرئيس ترمب المسكونة بجنون القوة والسيطرة. ويسود التشاؤم حتى داخل البلدان الغربية بسبب التوقعات من ارتفاع مهول للتضخم وارتفاع نسبة العجز وتراجع النمو الاقتصادي لمستويات قياسية، وهبوط قيمة الأسهم. وربما تلبست الرؤى المتشائمة بلبوس ديني لتستحضر من جديد خطاب النهايات بتكثيف الحديث عن قيام الساعة وعلامات القيامة ونهاية العالم، وهذه الخطابات ترتفع حدتها كلما حدثت أزمة خانقة كتعبير عن العجز عن فهم حقيقة الأزمة ومسبباتها وسبل الخروج منها، وإن كنا لا ننكر حقيقة الساعة ويوم القيامة، فإن دوافع استحضارها في هذه اللحظات، لا يدل على حالة إيمانية راسخة بقدرما يعكس أزمة في الوعي السنني والفاعلية الإيمانية.

ولا تشذ عن هذا المنطق كثيرا الخطابات والمقاربات التي تبشر بنهاية منظومة كشرط لصعود أخرى، كاشتراط سقوط الغرب لصعود الصين، ثم سقوط الصين لصعود الإسلام، وكأنه شرط في الحضارة لاستنهاضها أن تسقط مثيلاتها، ذلك أن صعود الحضارات وتدهورها ناتج عن عوامل مزدوجة، يتضافر فيها الذاتي بالموضوعي، وتظل العوامل الذاتية هي محور الانطلاق، والعلاقة بين الإسلام والغرب ليست بالضرورة علاقة مد وجزر كما يصر على ذلك عرابو الصدام والصراع، فالحضارات يمكن أن تتجاور وتتآلف وتتكامل لخدمة الإنسانية، مع الحق في احتفاظ كل منظومة حضارية بمقوماتها الذاتية وشخصيتها الحضارية.

ج- نزعة تفاؤلية: تشكل النزعة التفاؤلية هامشا ملحوظا ضمن ما اصطلحنا عليه باستشرافيات «كورونا المستجد» أي الأدبيات الاستشرافية في زمن «كورونا المستجد»، وذلك راجع إلى عاملين: عامل عقدي إيماني، وعامل إنساني.

فيقتضي العامل الأول أن الأوبئة ليست سوى دروس على درب الابتلاء، يحصّل منها الإنسان العبَر ليمضي في رسالته الإيجابية ببعث الأمل والطمأنينة في الحياة.

أما العامل الثاني، فيقوم على فرضية أساسية تتمثل في أن الإنسان لا يحصل من حظ الحياة إلا بمقدار تفاؤله، ولذلك فالذي يُبقي على الإنسان هو توقعه وشعوره المستمر بأن القادم أفضل. ولذلك فالكثير من الرؤى المقدمة في هذا الشأن تسعى لتكريس روح التفاؤل سواء استندت لمعطيات علمية وموضوعية وجيهة، أو أنها لم تبرح حدود الانطباعات المحفزة والباعثة على الاطمئنان.

وتحضر النزعة التفاؤلية في أدبيات البحث المستقبلي في بناء السيناريوهات والمشاهد الهادفة لتقديم رؤى متعددة من زوايا مختلفة عن المستقبل، وذلك برصد المستقبلات الممكنة والمحتملة والمفضلة، والسيناريو المفضل هو الذي يعبر عن نزوع تفاؤلي في تصور المستقبل، فهذا الأخير يحكمه منطق يندرج ضمن سيكولوجيا التفكير الرغبي، أي أنه محاولة علمية لبناء سيناريو يتلاءم مع انتظارات الباحث، ومطالب وطموحات المجتمع الذي يعيش فيه.

 

لكن استشرافيات «كورونا المستجد» في مجملها ليست متقيدة بالأبعاد المنهجية والتقنية للبحث المستقببلي، بل تطغى عليها غالبا الأبعاد الاستهدافية والانطباعية، فيأتي الخطاب جانحا نحو الذاتية أحيانا بصورها الثقافية والإديولوجية والفئوية، وربما بلغ التحيز نحو الآخر مبلغا غير مستساغ، ولذلك فلا يمكن طرح مسألة التوازن في هذه الرؤى الاستشرافية بين ما يقتضيه التحذير من تطور الأوضاع نحو سينارويهات محتملة قد تكون الأسوأ، وبين ما يقتضيه بعث التفاؤل والتبشير بسيناريو مفضل يتطلب استحقاقات معينة ينهض بمقتضاها مختلف الفاعلين لتحققه في الواقع المستقبلي القريب أو المتوسط.

وتصنف الدراسة التي نشرتها جامعة سنغفورة للتكنولوجيا والتصميم ضمن هذا المسعى التفاؤلي الجاد والبعيد عن الانطباعية، حيث نشر نتائج دراسته التي ترى بأن نهاية الوباء ببلدان العالم العربي خلال شهري مايو ويونيو، باستثناء لبنان والأردن التي تعد رسميا بلدان تمكنت من القضاء على الوباء، وتتوقع الدراسة خلو الفيروس من العالم في 29 مايو بنسبة 97 في المائة، وانتهاؤه من العالم كليا في 27 نونبر.

وبالنظر للطابع المفرط في التفائل لم تسلم الدراسة من النقد، إذ وصفها بعض الباحثين منهم الدكتور إسلام عنان أستاذ اقتصاديات الصحة وعلم انتشار الأوبئة بكلية الصيدلة بجامعة مصر الدولية، بأنها غير احترافية، مؤكدا في معرض تعليقه على توقعات الدراسة بخصوص انتهاء الفيروس من مصر خلال 20 مايو، أن الدراسة لا تحتوي على توضيحات لمصادر المدخلات المغذية للسيناريو، وأنها تمت بطريقة إحصائية بسيطة وليست احترافية من خلال توقع المنحنى الخاص بالإصابات المؤكدة حتى وصوله لمرحلة الاضمحلال.

د- نزعة سلطوية: يعد النزوع السلطوي ظاهرة يتعزز حضورها في أوقات الأزمات، وهو أمر ملحوظ في ظل أجواء «كورونا المستجد»، وهو ما ارتفعت أصوات تحذيرية منه بالغرب، فما بالك بباقي البلدان التي يعيش أفرادها في ظل أنظمة أبوية استبدادية عريقة، ويمكن تصور حضور النزعة السلطوية ضمن استشرافيات «كورونا المستجد» في عنصرين:

-احتكار المعلومة وعدم تعميم المعطيات: وهو اتهام ارتفعت أصوات عالمية لتوجيهه لعدد من البلدان بالتعتيم على الوضعية الوبائية كالصين وإيران وغيرها، ويشمل ذلك أيضا التعتيم على الوضع الاقتصادي والمالي، وعدم الشفافية في تدبير الصناديق المخصصة للتعامل مع الآثار الاجتماعية للجائحة، وقد تناولت العديد من الدراسات الآثار الكارثية المحتملة لحالة التعيتم هذه وانعكاسها على الدراسات والأبحاث التي تسعى لبلورة دراسات وحلول تخفف من آثار الأزمة، وتبدو خطورة هذا العنصر أساسا في تعطيل عجلة البحث العلمي وعدم استفادة هذه البلدان من الخبرة العلمية في المجالات المختلفة الطبية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها.

-احتكار التدبير: ينتج عن ذلك انتهاج الدولة لسياسات أحادية غير تشاركية بداعي ظروف الاستثناء والاستعجال في تدبير الأزمة، فيتم تغييب المؤسسات الوسيطة من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني، وبالأحرى تغييب المجتمع في هذه السياسات، مما يخلق حالة من الامتعاض والرفض لهذه السياسات الأحادية، بل إن حالة الاستثناء قد تشكل فرصة سانحة لبعض الدول الاستبدادية لإعادة إنتاج وتجديد الظاهرة السلطوية، فيتسيد المشهد فيها رجال السلطة ويختفي باقي أطر الدولة كالأطباء والمدرسين والمهندسين والحقوقيين وغيرهم، بل إن تجارب بعض الدول العربية أبرزت كيف أن جهات نافذة داخل السلطة قد تستغل ظروف الحجر الصحي لانتهاز الفرصة للضغط لاستصدار قوانين سالبة للحريات تتعارض مع دساتيرها والتزاماتها الحقوقية.

 

ويشير مقال بموقع الحرة يقوم برصد تحولات السلطوية زمن «كورونا المستجد» بأن هناك ثلاثة أنظمة عربية على الأقل تشعر بالغبطة والسرور لأن «كورونا المستجد» منحتها مشروعية خرافية في حظر أي فعل احتجاجي وجعله عملا غير قانوني بل غير أخلاقي في الظرف الراهن، وهي لبنان والعراق والجزائر، بينما تعيش سوريا لحظة حبور لم تشعر بها منذ تسع سنوات وهي مدينة لـ»كورونا المستجد» بمنحها الفرصة لاستعادة الكثير من منسوب الشرعية الذي افتقدته بفعل إمعان النظام في أعمال القتل والدمار الناتج عن البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، بينما يرى بأن إيران ستكون لها الفرصة سانحة لإعادة بناء نظامها لسردية المؤامرة. لكن صاحب المقال غض الطرف عن ابتهاج أنظمة استبدادية عربية أخرى باتت مضرب المثل في القمع وسحق المعارضين، وفي تدبير المؤامرات وبث القلاقل في بلدان عربية شقيقة، والعمل على تفكيك نسيجها المجتمعي، وهذه ليست سوى صورة من صور التحيز الإعلامي كما يعكس ذلك الخط التحريري لشبكة الحرة الإعلامية الأمريكية مصدر هذا المقال.

وفي سياق آخر يتصاعد الخوف من حالة الإشادة بالإجراءات السلطوية الصادرمة المتعلقة بفرض الحجر الصحي، وهو ما قد يتحول من حالة الإعجاب بقدرة البلدان غير الديمقراطية على التصدي للفيروس إلى تبني هذه السياسات، لاسيما مع حالة الفشل التي منيت بها الكثير البلدان الديمقراطية في وقف تسارع انتشار العدوى،  علما أن هناك رواية واحدة يتم الترويج لها على نطاق واسع داخل عدد من الدول السلطوية بأن ما يتحقق من نجاحات في التحكم بالفيروس مقارنة بالدول الديمقراطية هو بسبب نجاعة السياسات المتخذة من قبل السلطة، مع تغييب الكثير من العوامل الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ما يصب في النهاية في خانة تكريس السلطوية حلا نهائيا لهذه المجتمعات ويقلل من قيمة التدبير الديمقراطي للأزمات، بل ويجعل الحديث عن الانتقال الديمقراطي في البلدان السلطوية بلا جدوى.

وإجمالا، فإن حضور النزعة السلطوية في استشرافيات «كورونا المستجد» تجسد من خلال الحضور الممركز للدولة الوطنية في تدبير الجائحة وفي رسم السياسات والخطط الاستشرافية وفي حالة الانكفاء داخل الحدود، كما يظهر ذلك أيضا في الدراسات المحذرة من أن تنامي السلطوية، قد يسهم في الإجهاز على المكتسبات الديمقراطية والحقوقية داخل هذه الدول، لكن جوانب أخرى أيضا ينبغي استحضارها في معرض نقد السلطوية في علاقتها بالاستشراف، وهو دمقرطة الدراسات المستقبلية الذي طالب به الدكتور المهدي المنجرة، وذلك بتبني رؤى الشعوب وتمثلاتهم عن الثقافة والهوية والسياسة والاقتصاد، وإنهاء هيمنة الغرب على الدراسات المستقبلية وذلك ما أطلق عليه استعمار الدراسات المستقبلية، وهو أمر من الصعب حصوله في ظل نظم سلطوية بدون أفق ديمقراطي وليس لها تطلع نحو الاستقلالية عن التبعية الغربية.

 لقد شكلت نازلة «كورونا المستجد» إحدى القضايا المفصلية في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، فهي من جنس القضايا البازغة بتعبير جيمس دتور، التي من شأنها أن تحدث تحولات كبرى بصورة غير متوقعة في أنماط العيش وعلى مستوى المفاهيم والعلاقات المؤسسة للاجتماع الإنساني، وكان من تداعيات ذلك أسهمت في بعث هواجس الاستشراف والتطلع نحو المستقبل لدى المثقفين والخبراء.

وقد انصرف الجهد في هذه العمل إلى دراسة وتتبع أهم الدراسات والأبحاث الاستشرافية ذات العلاقة بجائحة «كورونا المستجد»، سواء الدراسات القبلية التي يفترض أنها تنبأت بالجائحة أو الدراسات التي كتبت زمن الأزمة باتجاهاتها المختلفة ونزوعاتها المتعددة ممثلة في النزعات النقدية، والتفاؤلية، والتشاؤمية، والسلطوية.

 

ويمكن أن نلخص الاستنتاجات الأساسية للدراسة في الآتي:

 

-أن خطر الجوائح البيولوجية والأوبئة هاجس إنساني قديم، لكنه تراجع مع التقدم الطبي المعاصر، وبات ينظر إليه بوصفه خطر لا يحظى بالأولوية أمام ظهور الخطر النووي، لكن قلة من العلماء والخبراء ظلوا يعتقدون بأولوية خطر الأوبئة، وقد ترجمت أعمالهم في نصوص أدبية على شاكلة رواية «عيون الظلام»، أو أعمال درامية نحو فيلم «عدوى»، أو قدمت ضمن أبحاث تحذيرية منذرة بالخطر على شاكلة كتاب «ساعتنا الأخيرة: إنذار من عالم»، وغيرها.

-أن الاستشراف في ظل الأزمة عملية صعبة، بالنظر لعدم اتضاح الرؤية وتعذر أخذ مسافة كافية عن المؤثرات الظرفية للأزمة، ولذلك جاءت الكثير من الدراسات المقدمة إما أسيرة للانطباعات الذاتية أو مطبوعة بطابع التسرع في الاستنتاجات، أو خاضعة لمنطق الحتميات الذي يفترض هيمنة العامل الخارجي ويهمش العوامل الذاتية ويضع الذات خارج دائرة الفعل والابتدار.

-أن النزْعات الأربع التي طبعت الأدبيات الاستشرافية لما بعد «كورونا المستجد»، وإن افتقد الكثير منها للمقومات المنهجية والتقنية المطلوبة في البحث المستقبلي إلا أنها تشكل زوايا متنوعة ومفيدة للإسهام في تشكيل الرؤية الاستشرافية، وتبقى الحاجة ماسة للنزعة النقدية التحذيرية لتفادي هيمنة النزعة السلطوية وطابعها الاستهدافي الأحادي، كما تفيد النزعة التحذيرية في الحد من الإفراط في النزعة التفاؤلية. بينما تفيد النزعة التفاؤلية المتوازنة القائمة على أساس علمي تضبطه العوامل المغذية للسيناريو المفضل، يفيد في تلافي الرؤى والنزوعات المفرطة في التشاؤم. أما النزعة التشاؤمية فليس بالضرورة أن أدبياتها كلها تيئيسية تنطوي على رؤية سوداوية، وإنما تصلح في تشكيل عوامل البناء والتغذية للسيناريو المحتمل الذي يفترض وقوع الأسوأ، فيرصد العوامل والمتغيرات الحاكمة لمقتضى تحققه في الواقع، فتكون فائدته في سعي صانع القرار لتجنبه بالحرص على إجراء تعديلات في العوامل والمتغيرات المتحكمة في الظاهرة.

 

بقلم أ.د. فؤاد بلمودن، باحث في الفكر الإسلامي - أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة.

 

يمكن الاطلاع على هذه الدراسة العلمية ضمن العدد 19 من مجلة منار الهدى عبر موقع منار  الإسلام وذلك على الرابط التالي:  

http://www.manarelhouda.islamanar.com/magazin-manar-elhouda-n-19/

 

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة