جائحة «كورونا المستجد» وهواجس الاستشراف
جائحة «كورونا المستجد» وهواجس الاستشراف

لاشك أن الاستشراف نزعة إنسانية قديمة قدم الإنسان، تختزل شغفا إنسانيا نحو استكشاف المستقبل واستكناه مجاهيله واستطلاع غوامضه، وتشتد الحاجة إليه في ظروف الأزمات ولحظات الشدة الفارقة في حياة الأفراد والمجتمعات.

وقد شكلت جائحة «كورونا كوفيد 19» حدثا مفصليا في الربع الأول من القرن العشرين الميلادي، بل لعلها أبرز حدث من نوعه يعيشه الإنسان المعاصر في ظل منظومة العولمة الغربية، إذ أرخى بظلاله في وقت وجيز على جميع الشعوب والبلدان، فلم تكد تسلم دولة من آثاره المدمرة على صحة الإنسان، بل وعلى الاقتصاد والسياسة والاجتماع، على تفاوت بينها في التأثير والتأثر، وإن كانت الدول الغربية الغنية تبدو الأكثر تأثرا من جراء هذه الجائحة بسبب ديناميتها الاقتصادية التي تفوق باقي البلدان.

ورغم أن جائحة ««كورونا المستجد»» شكلت صدمة من صدمات العولمة المتوقعة على شاكلة الأزمات المالية الكبرى التي تضرب الأسواق المالية في العالم بشكل دوري، نحو أزمة وول ستريت سنة 1929 أو الأزمة المالية سنة 2008، فكذلك الجوائح والأوبئة لها دوراتها الطبيعية التي تضرب العالم بين الفينة والأخرى، نحو وباء الكوليرا والحصبة والملاريا وإيبولا والأنفلونزا وغيرها

إلا أن الذي يختلف فيما يتعلق بفيروس «كورونا المستجد»هو سرعة الانتشار، إذ في غضون أسابيع قليلة من انتشار الوباء بمدينة ووهان الصينية تحولت كورونا كوفيد 19 إلى وباء عالمي، يهدد حياة ملايين البشر في جميع أنحاء المعمورة، بحيث اضطرت الدول إلى إغلاق الحدود وشل حركة المدن، وتوقيف حركة النقل البري والملاحة الجوية والبحرية، وحبس ملايين البشر في بيوتهم، في مشهد مثير ومذهل جعل منظمة الصحة العالمية وجميع الفاعلين الصحيين في العالم عاجزين عن تقدير الموقف وإدراك سبل التعامل معه، والفارق في هذه الجائحة أنها جاءت في مرحلة تاريخية تشكل ذروة سنام العولمة بحيث يعيش النظام الرأسمالي في أوج قوته وتوهجه بعد التخلص من العديد من عوائق الحرب الباردة، وإثر تجاوز الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، والتطور الهائل لحالة التداخل الاقتصادي بين دول العالم وما عرفته سلاسل التوريد والإنتاج من تمدد عبر دول العالم. ولعل هذا السياق ما يجعل من وباء «كورونا المستجد» بالفعل من أشد الصدمات التي عاشها الإنسان المعاصر في ظل منظومة العولمة.

ولعل حالة الصدمة التي أخذت سكرتها بلب العديد من المثقفين والعلماء والباحثين حول العالم، كانت دافعا قويا ومحفزا على بعث روح الاستشراف لملامح للمستقبل المحلي والعالمي، لينبعث سيل من الدراسات والمقالات والتصريحات، إما بغرض الجزم بتشكل عالم جديد مختلف عن عالم ما قبل «كورونا المستجد»، وليحضر من جديد سؤال المابعديات بصورة مكثفة يحاول أصحابه إقناع المتلقي بجدية رؤاهم، بينما الكثير منها تعرض للآثار المحتملة للوباء على الاقتصادات الدولية والمحلية، أو أثر ذلك على النظام العالمي والتغير المحتمل في توازن القوة بين الأقطاب في العالم، ومستقبل الدولة الوطنية، ومستقبل الطاقة الأحفورية في العالم وقضايا كثيرة

وليس الغرض من هذه المقالة استقصاء كل الأعمال الاستشرافية في هذه المرحلة الضيقة، وإنما التعرض لأنماط وسبل التعاطي مع هذه الجائحة من منظورات استشرافية، تستحضر الدراسات القبلية التي يفترض أنها تنبأت بالجائحة وحذرت منها بشكل استباقي، أو بعض الأدبيات الاستشرافية التي صدرت وقت الأزمة وهي التي أطلقت عليها عبارة «استشرافيات «كورونا المستجد»»، مع رصد محددات الرؤية الاستشرافية وخلفياتها واتجاهاتها المعرفية أكثر من الاشتغال بالأطر المنهجية والتقنية التي تعد سمة محددة لأصول البحث المستقبلي الرصين والدراسات الاستشرافية.

 

أولا ـ جائحة «كورونا المستجد» موضوعا للاستشراف:

جدير بالذكر أن نشير إلى أن أهم ما يميز لحظات الأوبئة هو الهشاشة وطغيان العاطفة وميل الإنسان لتصديق كل ما يتناهى إليه من أخبار وشائعات، فعلى مدار أسابيع تم تداول أخبار ومقالات تضمنت تنبؤات وتكهنات، وقدمت أعمال سابقة على أنها دراسات تنبأت بالوباء قبل وقوعه، وسنقتصر على دراسة بعض النماذج المتداولة الأكثر جدية في هذا الشأن:

1- رواية «عيون الظلام»: صدرت للمؤلف الأمريكي (دين كونتيز) سنة 1981م، والتي تدور أحداثها حول سيدة تسعى للتأكد من كون ابنها مات قبل عام بسبب فيروس وبائي خلال رحلة استجمام أو أنه مازال حيا، وقد تنبأ الكاتب فيها بالفيروس التاجي وأطلق عليه اسم: «ووهان-400»، ويقصد بذلك مدينة ووهان الصينية منشأ فيروس «كورونا المستجد». ويتناول «دين» في روايته نشأة الفيروس في مختبرات خارج ووهان لاستخدامه بوصفه سلاحا بيولوجيا فتاكا يقتل كل من يصيبه بنسبة مائة في المائة، ويسرد الكاتب كيف أن الفيروس قضى على عدد هائل من سكان المدينة في ظرف تسعة أيام حسب محطة (سي إن إن). وبسب تشابه بعض وقائع الرواية مع ما يجري حاليا، واستحضار عنصر المؤامرة في كون فيروس ووهان-400 المتخيل في الرواية ثم تصنيعه في الصين لاستهداف الولايات المتحدة الأمريكية، لولا أن أحد الباحثين انشق عنها ليتحالف مع الولايات المتحدة لضرب الصين، فما تقدمه الرواية في نظر الكثيرين ليس مجرد سرد لوقائع تستند للخيال العلمي، بل تقدم عملا استشرافيا يتنبأ بالجائحة ويحدد موطن نشأتها، وزاد الأمر إثارة أن أطلقت أمازون على النسخة الورقية للرواية اسم: «ووهان-400» بدل الاسم الأصلي: «طيور الظلام».

وفي حقيقة الأمر فالرواية لا تخرج عن نطاق الأعمال الأدبية التي تبنت خط الصراع والاستهداف الأمريكي للصين عبر ما يسمى بالقوة الناعمة الأمريكية، فمدينة «ووهان» معروفة بأنها موطن للصناعات الطبية والمختبرات البيولوجية في الصين منذ عقود.

وبالنظر إلى أن الرواية ظلت مغمورة لثلاثة عقود من صدورها، فإن هناك تشكيك جدي فيما إذا كان قد طرأ تعديل أو تغيير لمضامينها لتحتفظ براهنيتها الاتهامية القائمة على نظرية المؤامرة، لاسيما في اعتماد اسم الفيروس التاجي أو حتى ووهان-400، ففي تقرير أصدرته صحيفة من هونغ كونغ اسمها: «ساوت شينا مورنينغ بوست»، أكدت أن الرواية أطلقت اسم ووهان-400 بعدما كانت أطلقت على الفيروس «جوكي-400» نسبة لمدينة روسية قام الروس بتصنيع الفيروس بمختبراتها، وهو ما اعتمدته النسخ القديمة من الرواية، ويستبعد أن تكون أمازون هي من غيرت اسم الرواية، وذلك ما أكدته الصحفية (كيت وايتهايد) في تقريرها بكون التغيير الذي حصل في تسمية الفيروس من جوكي إلى ووهان جاء في نسخة 1989م من قبل المؤلف نفسه الذي كشف عن نفسه بعدما كان قد أصدر الرواية باسم مستعار سنة 1981م، وهو أمر يطرح أكثر من علامة استفهام حول ما إذا كنا إزاء عمل أدبي إبداعي أم عمل استخباراتي بطرق ناعمة.

أما ما سوى ذلك من الوقائع التي تسوقها الرواية عن الفيروس، تبدو أبعد عن الحقيقة، حيث تفترض الرواية أن الفيروس من صنع الإنسان وهو ما يصعب تأكيده أو نفيه لحد الآن، رغم أن هناك دعوات لفتح تحقيق دولي في الموضوع، كما أن معدل الوفيات لحد الآن أقل بكثير مما تفترضه الرواية بحيث لم يتجاوز 3 في المائة من المصابين بالعدوى، كما تختلف فترة الحضانة في الرواية، إذ تصل إلى أربع ساعات بينما تصل حضانة فيروس «كورونا المستجد» كوفيد 19 إلى أربعة عشر يوما.

 

ومع ذلك فإن تسمية الفيروس وربطه بمدينة ووهان الصينية واستخدام الكاتب توصيفات علمية دقيقة ومتخصصة استقاها من علماء الأوبئة، ما جعل الكتاب يسوق من قبل شبكة أمازون ومن قبل الكثير من وسائل الإعلام بأنه حقق سبقا في التنبؤ بأخطر وباء فتاك حل بالبشرية في العصر الحديث.

2- فيلم عدوى ((Contagion: للسيناريست «سكوت زي بيرنز» الذي عرض عام 2011، تدور أحداث الفيلم عن فيروس يدعى (MEG-1) تحول إلى وباء عالمي بعدما انتقل من خفاش إلى خنزير ثم إلى إنسان لم يغسل يديه قبل مصافحة إنسان آخر، وتذكر وقائع الفيلم أن معدل وفيات الفيروس مرتفع جدا، إذ يصل إلى خمس وعشرين وإلى وثلاثين بالمائة، ومدة حضانته تصل إلى ثلاثة أيام.

ويتم الترويج للفيلم إعلاميا على أنه عمل درامي تنبأ بالفيروس قبل وقوعه، ومن الواضح أنه استوحى الكثير من الحقائق العلمية المتعلقة بالفيروس المذكور من المعلومات المتوفرة عن الأنفلونزا الإسبانية لعام 1918م.

ويذكر سكوت أنه استشار خبراء الأوبئة ومنظمة الصحة العالمية قبل كتابة السيناريو، وأن التشابه بين وقائع الفيلم وجائحة «كورونا المستجد» محض صدفة لا أكثر

وتظهر جدية المعلومات التي يقدمها الفيلم في تشابه ظروف نشأة الفيروس (MEG-1) مع كوفيد19، فقد نشأ في سوق رطبة للحيوانات بالصين، ثم انتقل للإنسان من الحيوان (الخنزير والخفاش)، وهي فرضية قائمة بالنسبة لكوفيد19 لكنها تظل غير مؤكدة بمقدار الشكوك حول أصل الفيروس، هل هو طبيعي أم مصنع ضمن المختبرات؟ وهل الفيروس مصدره الخفاش أم أن هذا الأخير مجرد ناقل للعدوى؟ وهل اقتصر دوره حينها على نقل العدوى فقط أم أن الفيروس عرف طفرة جينية قبل انتقاله للإنسان؟ هذه كلها أسئلة لم يتسن التأكد منها بعد، لكن فيلم عدوى يطرح روايته التي لا تخرج عن سياق الفرضيات المطروحة.

طرق الانتقال للعدوى التي يطرحها الفيلم مشابهة لطرق انتقال «كورونا المستجد» كاللمس سواء بالمصافحة أو لمس الأشياء الملوثة بالفيروس، وكذلك الرذاذ الناتج عن العطاس أو السعال.

وتظهر ضمن الفيلم شخصية محصنة ضد الفيروس يجسدها الممثل الأمريكي «مات ديمون»، وهو زوج مريضة بالفيروس، وهذا أمر غير متحقق لحد الآن على الأقل في الواقع مع فيروس «كورونا المستجد»، بل إن ما تظهره بعض التقارير الصادرة من الصين أن أشخاصا تعافوا من الفيروس ثم أصابتهم العدوى من جديد، وهذه قضية لا يمكن تبنيها ولا يمكن نفيها في الآن ذاته بسبب ما تتطلبه الدراسة العلمية من تواتر التجارب وعدم الاعتماد على تقارير تعتمد حالات فردية محدودة.

وتظهر في الفيلم مقترحات لاعتماد «فورستيا» وهي صبغية الأزهار كدواء لعلاج الفيروس، وهو ما لم تؤكده أي تقارير طبية نجاعته في علاج «كورونا المستجد» رغم وجود ادعاءات بوجود علاجات طبيعية ترتفع بين الفينة والأخرى، بل تظل حتى العلاجات الرئيسية المستعملة من قبل بعض الدول كالكلوروكين وهيدروكسي كلوروكين موضع تشكيك ومعارضة من الكثير من الأطباء.

وتتقارب المدة المفترضة في الفيلم للحصول على لقاح فعال مع المدة التي تطرح في الواقع من قبل مختبرات الأدوية وهي في غضون شهور إلى سنة.

غير أن الفيلم تضمن مبالغات في تقدير الأعراض الناتجة عن الفيروس والتي تتجاوز بكثير أعراض «كورونا المستجد» إلى حالة الهيستيريا والعض والدماء، وما يصاحب ذلك من اضطرابات ونهب وتخريب لمنشآت المدينة، وهو أمر بعيد المنال في وقائع جائحة «كورونا المستجد» التي عرفت حضورا قويا للأجهزة الأمنية والفرق العسكرية لتدبير ظروف الحجر الصحي بمختلف دول العالم بحيث قلت معه الجريمة بشكل غير مسبوق في العالم.

3- كتاب «ساعتنا الأخيرة إنذار من عالم»: صدر لمؤلفه مارتن ريز سنة 2004، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي: تضمن الكتاب مقدمة وخاتمة وإحدى عشر عنوانا في المتن، وهي كالآتي:

-صدمة التكنولوجيا- ساعة الحساب – تهديدات ما بعد 2000: الإرهاب والخطأ.

-الجناة والمسكنات – كبح مسار العلم – خط الأساس للمخاطر الطبيعية: الاصطدام بالكويكبات – تهديدات البشر لكوكب الأرض – مخاطر قصوى: رهان باسكال.

-فلاسفة يوم الحساب – أهي نهاية العلم؟ – هل لمصيرنا أهمية كونية؟

-ما بعد كوكب الأرض.

يرى مارتن ريز أن العلم يتقدم بمعدل سريع على ثلاث جبهات: تكنولوجيا حيوية، وتكنولوجيا سيبرية، ونانوتكنولوجيا، إلا أن القضية التي استأثرت باهتمامه هي الجوانب المظلمة للعلم، فالعلم الجديد قد تكون له نتائج غير مقصودة، فالجانب السيء من تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين قد يكون أكثر استعصاء على العلاج من السلاح النووي الذي ظل مشكلة النصف الثاني من القرن العشرين بامتياز.

ويحدد مارتن ريز غرضه من تأليف الكتاب، وهو التركيز على مخاطر القرن الواحد والعشرين التي تقل درايتنا بها حاليا، والتي يمكن أن تكون أكثر تهديدا للبشرية وللبيئة الكونية. ورغم أن مارتن ريز عالم كونيات إلا أنه عمل على تضمين كتابه بجملة من التوقعات أو بالأحرى التحذيرات التي تشمل مجال البيولوجيا والتكنولوجيا الحيوية، وقد جسد في هذا الكتاب صورة الرجل الأمريكي المسكون بهواجس لا تنتهي من التحديات، فما يكاد يضمحل قلقه من تحدي حتى تنقدح له تحديات أخرى، فيستحضر ريز هواجس الحرب الباردة وما حملته من تهديدات نووية مازالت قائمة وإن تراجعت حدتها، كما يستحضر خطر الكويكبات في صورة كويكب مارق يصطدم بالأرض ويحدث دمارا هائلا أو يعجل بنهاية الحياة على وجه الأرض

وسنركز من جملة توقعات مارتن ريز في كتابه «ساعتنا الأخيرة» على ما يوصف بأنه تنبؤ بجائحة «كورونا المستجد»، دون سواه.

ففي سياق أحداث 11 شتنبر 2001 الذي يعد حدثا أعاد تشكيل العقل الأمريكي في علاقته بالعالم وأعاد صياغة تصوراته عن قضايا الإرهاب وصدام الحضارات، دبج ريز هذا الفصل الذي استهله بالعبارات التالية:

«تهديدات ما بعد 2000: الإرهاب والخطأ. خلال عشرين عاما سيصبح من الممكن بسب إرهاب بيولوجي أو خطأ بيولوجي قتل مليون فرد. ما الذي ينذر به ذلك الأجيال اللاحقة؟»

يلفت ريز أنظار الرأي العام الأمريكي إلى ما هو أخطر من التهديد النووي وهي المخاطر التي تنشأ عن الميكروبيلوجيا والوراثيات، دون أن يفوت الفرصة للمز دول تواصل –في اعتقاده- تطوير برامج هجومية كالعراق، ويسوق المؤلف في معرض التحذير من الخطر البيولوجي بوصفه خطرا جديا تتجاوز قدرته التدميرية السلاح النووي، نموذج البرنامج البيولوجي السوفياتي (بيوبريبات) الذي كان (كاناتاجان أليبيكوف) واحدا من خبرائه قبل لجوئه للولايات المتحدة سنة 1992م، وتغيير اسمه، حيث ألف كتابه: المخاطر البيولوجية، والذي روى فيه تفاصيل المجهودات التي بذلت لتحوير الجراثيم لجعلها أكثر قدرة على العدوى وأكثر مقاومة للقاحات المضادة، وقد تسبب المختبر الروسي الذي احتضن البرنامج في ست وستين حالة وفاة غامضة سنة 1979م بسبب تسرب جراثيم الأنثراكس.

ويرى الكاتب أن خطر الأسلحة البيولوجية يكمن في أنه لا يحتاج لدولة أو منظمة قوية لحيازته، بل يمكن أن يقوم بذلك أفراد من خلال مواد أو تقنيات وخبرات لها استخدام مزدوج في مجال الزراعة والطب، فالسلاح النووي أيضا له استخدام مزدوج، لكنه يتطلب للتحول من الاستخدام المدني لإنتاج الطاقة إلى تصنيع قنبلة نووية سلسلة عمليات طويلة وأجهزة معقدة للتخصيب، ليست في استطاعة أغلب دول العالم فما بلك بالأفراد والمنظمات، والأمر يختلف فيما يتعلق بالأسلحة البيولوجية كما يقول (فريد أيكل): «المعرفة والتكنيكات اللازمة لصنع أسلحة بيولوجية مفرطة القوة ستصبح موزعة في كل مكان، بين معامل المستشفيات ومعاهد الأبحاث الزراعية، والمصانع السلمية. ولن تتمكن إلا شرطة دولية بوليسية قامعة من الاستيثاق من تحكم الحكومة تحكما كاملا في هذه الأدوات الجديدة للدمار الشامل

 

ويحذر الكاتب من تنامي تكنولوجيا تخليق فيروسات بالتصميم، «فإذا تعاقب ظهور فيروسات مهندسة مختلفة لا توجد مناعة ضدها ولا علاج، فقد يكون لها تأثير كارثي على نطاق العالم، يكون حتى أكثر كارثية من تأثير الإيدز الآن في إفريقيا، وقد يكون مساويا مثلا لتأثير فيروس جذري ليس له فاكسين، أو حتى فيروس مما ينتشر بسرعة أكبر من الجدري نفسه، أو تنويع من الإيدز تنتقل عدواه مثل انتقال الأنفلوانزا، أو نوع من الإيبولا لا تطول فترة حمل المريض له.» ويلفت ريز الانتباه إلى مكمن الخطر هو أن القدرة على تصميم الفيروسات المستجدة لا توازيها قدرة مماثلة في تصميم وإنتاج فاكسينات ضدها، والأخطر من ذلك أنه يمكن تطوير سلالات بكتيريا لها مناعة ضد المضادات الحيوية، بل إن هناك بكتيريا من هذا النوع تنبثق بشكل طبيعي كنوع من الطفرات الطبيعية.

 

إن ما يقدمه ريز ليس عملية تنبؤ، سواء تعلق الأمر بصور التنبؤ العلمي أو ما يتعلق بالتنبؤات الانطباعية، وإنما يندرج مسلكه ضمن ما يمكن تسميته بالمستقبليات التحذيرية إذ يقدم توقعات لا ينتظمها سيناريو مكتمل من الناحية المنهجية والتقنية، بل هي توقعات مرسلة على طريقة العلماء والخبراء الموسوعيين، يستند في صياغتها على خبرته العلمية وسعة اطلاعه وإحاطته بالظاهرة، فلا يستطيع أن يقدر أخطار العلم إلا العلماء والخبراء، ممن خبروا دروب البحث المخبري وقضوا في كنفه دهرا طويلا يؤهلهم لتأليف رؤى استشرافية تحذيرية حتى يكون صانع القرار على دراية بها لاتخاذ الخطط اللازمة لتفادي الأخطار واجتراح الحلول الناجعة حال الضرورة.

وأما ما تضمنه عنوان الفصل الثاني من الكتاب من الإشارة إلى رقم 20 فلا يخرج عن توظيف سحر الرقم 20 الذي يعد ولعا مشتركا لدى الكثير من الباحثين المستقبليين الغربيين لا يضاهيه إلا سحر عام 2000 وما كتب حوله من الدراسات والنبوءات التي وصلت حد التنبؤ بنهاية العالم حينها من قبل بعض المولعين بأحاديث النهايات وسردياتها المثيرة.

لكن التوقعات المرتبطة بالخطر البيولوجي للفيروسات سواء كانت طبيعية أو مصممة ضمن مختبرات يعد مصدر قلق مشترك للكثير من الباحثين البيولوجيين وغيرهم، ممن يدركون القدرة التدميرية للفيروسات المعدية، وحجم الخطر الذي يمكن أن تشكله على مستقبل الإنسانية سواء نتجت عن خطأ علمي أو عن تهديد إرهابي، وما ساقه من حديث عن الفيروسات المستجدة أو المعدلة حقيقة قائمة تعيشها البشرية اليوم مع فيروس «كورونا المستجد» الذي يظل اللبس قائما حول بواعثه هل هي تلقائية أم نتيجة خطأ مخبري أم أنه هجوم متعمد بحسابات سياسية قائمة، وكلها فرضيات متداولة من قبل الإعلام العالمي وإن كانت الفرضية الأخيرة أقل حضورا بسبب فظاعتها، فتجربة الإنسان المعاصر مع الأوبئة الفتاكة التي ضربت العالم على الأقل في العقود الأخيرة تجعل من التنبؤ بالأوبئة والتحذير من مخاطرها وتأثيرها على حياة الإنسان وعلى المجتمعات البشرية عملا ذا مصداقية كبيرة، فأمام هذه السيرورة من التطور البيولوجي وانخراط المزيد من بلدان العالم في السعي لامتلاك التكنولوجيا الحيوية بالموازاة مع باقي التكنوليوجات الأساسية الأخرى، فإنه لا حدود لمخاطر العلم المتوقعة، وكل الاحتمالات تظل مفتوحة بما فيها الاحتمالات السيئة والمدمرة وهذه الأخيرة هي التي تولى (مارتن ريز) رصدها والتحذير منها.

 

ثانيا– هواجس الاستشراف في زمن «كورونا المستجد»:

تنزيل نسخة معدلة ذات جودة عالية لمجلة منار الهدى العدد التاسع عشر

نهجت جل دول العالم سياسة الإغلاق والحجر الصحي تدبيرا أساسيا ضمن عدة إجراءات وتدابير لمواجهة تفشي الجائحة، فشكل الحجر الصحي داخل البيوت وضعا مشتركا، فرض أنماطا جديدة للتواصل في ظل التباعد الاجتماعي، ليشكل الفضاء الافتراضي أفقا واسعا للسباحة والتجديف، بعدما ضاق الأفق المكاني ولم يعد رحبا بمقدرا سعة العوالم الافتراضية، تلك الجغرافيا الجديدة التي اكتشفها الإنسان المعاصر واللامحدودة بقيود المكان والزمان، والتي تصفها مارغريت فيرتهام Margret Wertheim بالقوة المتعاظمة لوغاريتميا التي تنفجر أمام أعيننا بقوة مذهلة تماما كما انفجر كوننا في فضائه المادي من لا شيء قبل خمسة عشر مليار سنة. ولا يعني ذلك أننا إزاء عوالم بديلة سحرية عن الواقع المكاني رغم كل الإغراءات والتشابكات التي يقدمها، وإنما يشكل ذلك امتدادا حقيقيا معززا للأبعاد المتعلقة بالمكان والزمان، وموسعة لدائرة الفعل البشري، ف?

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة