''كمن يحرس هشيم اللوعة '' / هشام بن الشاوي
''كمن يحرس هشيم اللوعة ''  / هشام بن الشاوي


ران صمت ثلجي بينهما، دام لحظات مضت كأنها دهر، استدارت وسارت نحوه، وضعت بين يديه  جريدة. أدهشه تاريخها، تلفت حواليه، باحثا عن هاتفه،  أمعن النظر في جهاز هاتف "نوكيا" من النوع الرخيص مرتابا، وقد تهشم زجاج واجهته، ثم تساءل :  "هل نمت في الضريح شهرا كاملا، دون أن أدري؟". أنقذته ذات العباءة السوداء من حيرته قائلة : "لست من أهل الكهف.. هذا العدد، سوف يصدر بعد شهر. ألق نظرة على صفحة الحوادث"، وحين رفع بصره شاخصا إليها، فوجئ باختفائها :" هل أحلم أحلام يقظة؟ أم أهلوس؟".
    فرد أيمن الجريدة أمامه على طاولة المقهى، دقق النظر في تاريخ عدد ذلك اليوم، عقدت الدهشة لسانه، وتطلع مشدوها إلى خبر مقتل ركاب طائرة، اختطفها مرتزقة موالون لتنظيم إرهابي،  بعد رفض السلطات لابتزازهم، لمح صورته وصورة صديقه أكرم، وجاء في تفاصيل الحادث أن أصابع الاتهام  تشير إلى الدولة الجارة، بسبب صراعهما  على تلك المنطقة الحدودية،  ومن ضمن الركاب مبعوثا الجريدة، المكلفان بإجراء تحقيق حول ضريح ولية صالحة، بعد أن ملأت الدنيا وشغلت الناس أخبار شفاء زوارها من أمراض فتاكة كالسرطان والأيدز، حتى زعمت الدولة الجارة أن هذه الولية الصالحة، تعد من رعاياها. وورد في التفاصيل عن كرامتها،  يروى أنه لكي يحد السلطان من سلطتها الرمزية، قام برميها في السجن، ووضع لها السم في الطعام، وعند احتضارها، ألحت على أن يوضع جثمانها فوق بغلة، وتدفن في المكان الذي تقف فيه الدابة، ولم يتمكن أي أحد من اللحاق بالبغلة، حتى وصلت إلى قبيلتها، وتم التعرف عليها، ودفنت في جنازة مهيبة، وقام السلطان بتشييد ضريح فخم لها،  وطلب منه الأهالي إحضار جثمانها، فنقل إلى الضريح الجديد، لكن بعد أيام، لوحظ   الجثمان يرقد في ضريح القبيلة البسيط، فقرر السلطان بناء ضريح جديد لها في بلدتها، على شاكلة الذي بناه لها في العاصمة. ومع ذلك، بقيت الولية تقض مضجع السلطان، حتى بعد موتها، وهي ترقد في قبرين متباعدين بجثمانين.
 ويروى أيضا، أنها كانت على قدر كبير من الجمال، وطلبت من الله أن يجعلها في صورة قبيحة حتى لا تغري الولي، الذي كرست نفسها لخدمته، فكانت تبدو في النهار قبيحة، وهي تخدم الولي، وفي الليل تستعيد جمالها.
****
 توقف أيمن عن القراءة، وفي سورة الغضب، هتف في دهشة ممزوجة بغيظ : "يا إلهي، هل سأموت بعد شهر؟ هل نحن رخيصون إلى هذا الحد؟ لماذا رفض المسؤولون تسديد الفدية؟"، ثم ترك المقهى،  وهام على وجهه قائلا لكل من التقى به :" سأموت بعد شهر!"، ومضى، وهو يسمع ولا يسمع ما يقولون، لكن لفت انتباهه جملة واحدة كررها الجميع : "(عوبّا) طار ليه الفريخ".
بقي متجمدا لثوان، وكاد أن يطير لبه،  وهو يرى إلى  صورته المنعكسة على مرآة الواجهة الزجاجية لمحل حلاقة، غارقا في صمت التماثيل، ثم هتف : "أنا لست أنا، أنا "عوبّا" بشحمه ولحمه، أعني بلحمه وعظمه..  وبمنظره الرث"، ورنا إلى الجسد الضئيل لشاب  في منتصف العقد الثالث، بقامته القصيرة، ووجهه الذي لفحته الشمس.  تفرس في الملامح البدوية، والنظرات المحايدة، الخالية من أي تعبير. حاول البحث عن القاسم المشترك بينهما، وهو الذي اعتاد أن يخفي مشاعره تحت قشرة سميكة من اللامبالاة والعبوس.
****
"هل تريد معرفة ماضيك؟"، جاءه صوت المرأة. شرد ذهنه، غرق في ذكرى بعيدة، تأمل مفكرة هاتفه  في وجل، كأنما يحاول استعادة ماض سليب، نسيه على حين غرة، لم يجد سوى اسم "الروبيو" ورقم هاتفه، إنه لا يعرف أحدا في هذه البلدة سواه، ثم أرقام بنات كثيرات، أغلبهن نساء رصيف، يمارسن أقدم مهنة في التاريخ، وهو الهارب من مدينته.. من التجنيد الإجباري - بسبب النزاع مع الجيران، حول مدينته الحدودية-  حيث يتم القبض على المتشردين والمخبولين، ويزج بهم في سجن عسكري، ليحاربوا بدل أبناء علية القوم في تلك المدينة الصغيرة، حسب رواية الأعداء. 
لم يشفع لـ"عوبّا" أنه يتيم الأب والأم،  وأنه بلا بطاقة هوية، بلا بيت، ولا أهل ولا وطن، ولا يتذكر من طفولته سوى الفترة، التي قضاها في ملجأ للأيتام؛ سنوات متشابهات حفرت أخدودا عميقا في دواخله، هرب من جحيمه، وهو على أعتاب الرجولة، بسبب المشرف الملتحي  المتزمت، الذي كان يعتدي عليهم بالضرب المبرح  نهارا، وبانتهاك حرمات أجسادهم الغضة ليلا، وكان ينعتهم- دوما- باللقطاء.. لم  يعرف "عوبا"  أن المشرف كان يكرر السيناريو نفسه الذي حدث معه، مع الطفل الذي كان، والذي لا يعرف بماذا يحس الناس، حين ينطقون بكلمة أمي أو أبي،  لأنه لم يجرب ذلك الإحساس أصلا. 

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة