مواقف وقضايا اليسار واليمين
عندما استعمِل مصطلحا اليسار واليمين لأول مرة، كان من أجل تحديد مكان الجلوس في المجلس الوطني الفرنسي سنة 1789، حيث كان يجلس على يمين رئاسة المجلس النبلاء ورجال الدين و على اليسار ممثلي العامة. تطور مفهوما اليسار و اليمين منذ ذلك الوقت و لكن رغم التغيرات الطارئة بقي اليسار و اليمين مرتبطين بأفكار و خصائص معينة. ليس الهدف من المقال فقط تحديد هذه الخصائص بل يرمي المقال أيضا إلى عرض تصور لليمين واليسار من خلال علاقة المفهومين بالطبقة و العامل الاقتصادي، و علاقة المواقف و القضايا التي يتبناها التياران بموقعهما في بنية السلطة.
لن يسعفنا الاعتماد على التفريق الأصلي بين اليمين و اليسار لأن الطبقة الليبرالية التي كانت تجلس على اليسار تحولت إلى اليمين و تشكل بعد ذلك يسار اشتراكي مؤسس على المقاربة الماركسية لصراع الطبقات و صيغ الإنتاج. لذلك فالتفريق الذي نتبناه مبني على التجارب الحديثة. حينما ندرس خطاب التيارين و ممارساتهما و برامجهما السياسية، نستخرج بعض الخصائص التي تميزهما و التي تتغير بحسب السياق التاريخي و النظام السياسي و موقع التيار في بنية الحكم. يرتبط اليمين في تفكيرنا عموما بمفاهيم كالسلطة والتراتبية والليبرالية والحفاظ على النظام و الأمن والواجب و التقاليد و الرجعية، كما يرتبط اليسار بمفاهيم كالمساواة و معارضة استعمال الدين في السياسة، و التقدمية و الحريات و الحقوق و الدفاع عن الأقليات. ففي الولايات المتحدة مثلا اتضح مؤخرا من خلال مواقف الرئيس ترامب تجاه الاحتجاجات على مقتل جورج فلويد مدى تركيز اليمين على الأمن و النظام و تجاهل حقوق الأقليات و الفقراء. كما أن بعض القضايا لم تعد مطروحة كالعلمانية في النظام الجمهوري الفرنسي حيث هناك شبه اجماع على إبعاد الدين عن السياسة و التأكيد على حرية المعتقد. و في بريطانيا مثلا يتم الحديث منذ سقوط حائط برلين عن طريق ثالث يتبناه حزب العمال و الذي يركز أكثر على تحقيق تكافؤ للفرص و على المساواة و عدالة اجتماعية اكثر في نظام رأسمالي.
بالتالي ندرك بأن هناك تنويعات في الخصائص التي تميز اليسار و اليمين حسب النظام السياسي و السياق التاريخي للبلد الذي نتكلم عنه. رغم ذلك يفرق البعض بين اليسار واليمين بناء على خاصيتين وهما الحرية والمساواة. حسب هذه النظرية فاليمين يميل عموما إلى دعم الليبرالية الاقتصادية ودعم حرية المبادرة الفردية ويمنع تدخل الدولة في الاقتصاد والاكتفاء بالمراقبة والتنظيم. يجب التنبيه إلى أن اليمين يدعم الحرية الاقتصادية لفئة معينة و لا يهتم كثيرا بتحقيق مساواة لتقليص الفوارق بين الطبقات الاجتماعية. على عكس اليمين، يدعو اليسار إلى تحقيق المساواة في الحقوق بما فيها الحريات الفردية و الفرص و يدافع عن الاقليات و المهمشين، لكنه يتحكم في الاقتصاد و يوجهه لتحقيق المساواة و العدالة الاجتماعية بدعم و تمويل أكثر للخدمات الاجتماعية كالصحة و التعليم.
على مستوى الممارسة السياسية، يعطي التيار اليميني الأولوية للقومية والدين والتقاليد والحفاظ على الوضع القائم والأمن، في حين أن اليسار تقدمي في توجهه السياسي و يسعى إلى التحرر من التقاليد و إلى تحقيق التغيير. لكن هذا التفريق يُواجَه باستثناءات نعتبرها تطرفا في كلا الطرفين. هناك أنظمة يسارية مارست السلطوية والتضييق على الحريات، و أصبحت أنظمة دموية [الستالينية و الأنظمة الاشتراكية السلطوية مثلا]، و هناك أنظمة يمينية انزلقت إلى التعصب الفاشي المُبَجِّل للقائد الديكتاتوري [الفاشية و النازية].
السؤال الذي قد يكون مثيرا للاهتمام هو ما الذي يجعل الإنسان يميل يسارا أو يمينا؟ ما الذي يجعل شخصا ما يدافع عن المساواة و العدالة الاجتماعية و الحقوق الفردية و يجعل شخصا آخر يدعم الحرية في الاقتصاد و المبادرة و الملكية و السلطوية و التراتبية؟
نسأل عن أصل هذا الميل ولا ندعي أننا قادرون على الكشف عن جينيالوجيا الميول السياسية في هذا المقال، بل نحاول فقط ان نطرح أسئلة ونقدم فرضيات. هل يفترض مثلا أن يكون الفقراء والمهمشين على اليسار و الأغنياء و الملاك على اليمين؟ تعني هذه الفرضية أن من لا يملك شيئا يكون ميالا إلى مطالبة من يملكون و يحكمون بتقسيم عادل للثروة أي بالمساواة في الاستفادة من ثروات الوطن، ومن يملك يطالب بحماية حريته وأملاكه وباحترام التراتبية الاجتماعية [تقسيم الأرزاق] والسلطة التي تحمي هذه التراتبية. من المفترض أيضا أن يكون للفقراء والمهمشين وعيا مختلفا عن وعي الطبقة الغنية المهيمنة، وعي يخدم مصلحته و ينازع مصلحة من يختلف معه. كما أنه يجب أن يرافق هذا الوعي قيم معينة تكون في الأصل مطابقة [حسب نيتشه] لرغبة ومصلحة وقدرة الانسان الذي يحمل هذا الوعي. فمن المفترض حسب هذا المنطق أن يكون للفقير وعي بوضعه كمحتاج يسعى إلى اقتسام عادل للموارد و الثروات التي يسيطر عليها الغني و المالك لهذه الثروات ووسائل الإنتاج [ حسب تعبير ماركس]، و يتصرف هكذا وفق رغبة و مصلحة واضحة، و حسب قدرته على الفعل و المنازعة. يمكن أن نستخلص مما سبق أن أصل المبدأ هو رغبة تسعى إلى تحقيق مصلحة حسب القدرة، غير أن أصل المبدأ قد غمره النسيان وانفصل المبدأ عن أصله. نختم مناقشة هذه الفكرة بسؤال يتعلق بجدلية المبدأ و المصلحة، هل يعبر اليمين و اليسار عن مبدأ مستقل عن المصلحة، أو أن المصلحة هي التي تكيف المبدأ؟ بعبارة أخرى هل يمكن ان يكون للإنسان وعي و أفكار و مبادئ تخالف مصلحته؟
عندما نستعرض النظريات التي تناولت العلاقة بين الفقير والغني، بين من لا يملك غير العمل والجهد ومن يملك [الأرض و المعمل، حسب نوعية العلاقة ووسائل الإنتاج]، نجد تفاصيل أخرى تجعلنا نراجع هذه العلاقة من حيث الوعي بحقيقة هذه العلاقة و من حيث هيمنة طبقة على أخرى، ماديا من خلال العمل و فكريا من خلال وسائل الترويج الثقافي و أجهزة الدولة الأيديولوجية و القمعية [ألتوسير]. نذكّر بأن ماركس مثلا انتقد البورجوازية لإخفائها حقيقة الاستغلال الذي يُمارس ضد العمال ولخلقها لوعي زائف لديهم بأن العلاقة بينهم و بين أرباب الرأسمال هي علاقة متكافئة [أجر مقابل عمل]. توقعت الماركسية أن تتمكن البروليتاريا من السيطرة على وسائل الإنتاج و إقامة نظام شيوعي حين يحدث ركود اقتصادي في النظام الرأسمالي.
التطورات التي عرفتها هذه العلاقة جعلت اليسار مرتبطا بالماركسية و اليمين بالرأسمالية و الليبرالية، غير أن التفريق بينهما يفترض حسب هذا المنطق أن اليسار كله عمال و كادحون و اليمين كله أغنياء و مستغلون. أدخلت التطورات التاريخية تغييرات على هذه العلاقة حيث ظهرت طبقة متوسطة، و ظهر العامل الموسر و تغيرت بذلك ظروف الطبقة العاملة و شروط الصعود في السلم الاجتماعي، و تغيرت طبيعة النظام الرأسمالي، و ظهرت مفاهيم أخرى عقدت الوضعية كالهيمنة [غرامشي] و الاستجواب [ألتوسير] و أصلحت وحدة ثقافة الطبقة العمالية مهددة بسبب بروز تقسيمات اجتماعية فئوية حسب الجنس و العمر و الجيل و العرق و الدين.
يعني تعقد الوضعية أنه لم يعد من السهل التفريق بين [البروليتاريا و البورجوازية كما تصورهما ماركس] اليسار و اليمين كازدواجية عقلانية بالرجوع إلى الوضع الاقتصادي للناس ز انتماؤهم الطبقي، فقد يكون الفقير يمينيا و الغني يساريا، و قد تصوت المرأة فقط للحزب اليساري أو اليميني الذي يدعم قضيتها أو تخضع له بحكم الدين أو العرق. تَعقد الوضعية يعني أن الوضع الاقتصادي [الطبقة] لم يعد المحدد الأول للوعي و للأفكار التي يتبناها الأفراد، قد يصوت عامل فقير على حزب يدعم الليبرالية الاقتصادية و السلطوية و خفض النفقات الاجتماعية لمجرد أن هذا الحزب يستعمل خطابا دينيا في تواصله مع الناس[العدالة و التنمية بالمغرب على سبيل المثال]. يصبح محدد الوعي في هذه الحالة هو الدين و ليس الوضع الاقتصادي المادي. و قد يكون المحدد هو العرق، كأن يصوت الأمازيغي مثلا لحزب يتبنى الدفاع عن الأمازيغية رغم توجهه الليبرالي الداعم للباطرونا مثلا[الحركة الشعبية أو الأحرار].
يظهر جليا أن الواقع أصبح أكثر تعقيدا وأن رفض أن يكون العامل الاقتصادي هو المحدد الأول لأفكار الناس فصل الأفكار عن الطبقة و ربطها بالخطاب و جعلها مفتوحة على الصراع السياسي و التطور التاريخي. لذلك أصبح مفهوما اليمين و اليسار مرتبطين مؤقتا ببعض المفاهيم كالحرية الاقتصادية [بالنسبة لليمين] و المساواة [بالنسبة لليسار] من حيث الخطاب لكن لا تؤسس العلاقة بكل وضوح على الانتماء الطبقي و الوضع الاقتصادي بالضرورة. فانتماء المواطن للأحزاب سواء اليمينية أو اليسارية أو تصويته عليها لا يتم باسم الطبقة فقط كمحدد فريد بل قد تدخل محددات أخرى كالدين، والعرق، والانتماء القبلي، والجنس، و المصلحة، و المبدأ و غيره من المحددات. نضيف إلى هذه المحددات الترويج لأفكار معينة تخدم مصلحة النخب الحاكمة في إطار ما يسمى بالهيمنة [غرامشي] وأجهزة الدولة الأيديولوجية [ألتوسير]، بحيث أنه يتم الترويج لأفكار معينة لكسب رضا العامة عنها واستبطانها واعتبارها حتمية وطبيعية، كأن تقنع الناس بأن كل ما تقوم به الدولة هو في صالح الوطن والشعب، أو أن تقنع الناس بأن المواطن مسؤول كليا عن فشله الاقتصادي وفشل أبناءه الدراسي، أو أن تجعل المواطن يستبطن الخوف من أي تغيير و يربط كل تغيير بالفوضى و غياب الأمن. لا يحد من ممارسة هذه الهيمنة سوى حرب مواقع و هيمنة مضادة تقوم بها تيارات معارضة في إطار صراع حول السلطة.
لفهم أعمق لهذه الإشكاليات نقدم نموذجا تحليليا للوضع في المغرب حيث يستعمل هذا التفريق بين اليمين و اليسار لوصف الأحزاب و الحركات المشاركة و غير المشاركة في المؤسسات، وصف لا يساعد كثيرا على فهم الخريطة السياسية للتيارات الفاعلة في الواقع. من بين عوائق هذا التحديد هو توجه لدى عامة الناس على اعتبار هذا التفريق لا غيا وغير ذي دلالة في السياق المغربي، فكل الأحزاب متشابهة ولا فرق بينها من حيث البرامج والمواقف والقضايا التي تتبناها. يعبر هذا التصور عن موقف هو أيضا سياسي تم الترويج له في إطار الصراع من أجل الهيمنة بين النخبة الحاكمة [الدولة العميقة] والأحزاب. لتجاوز هذا العائق، نحاول فهم إشكالية التفريق بين اليسار واليمين من خلال فهم طبيعة النظام وطبيعة الصراع بين مختلف التيارات الفاعلة في المجتمع و السياسة من أجل تحقيق الهيمنة أو مقاومتها.
تعتبر الدولة العميقة أساس الحكم و لا تخضع تمثيلتها للانتخابات و هذا تقليد و ممارسة سياسية متوافق عليها منذ قرون. تخضع الأحزاب لعملية التنافس الانتخابي من خلال تقديم برامج والدفاع عن مواقف وقضايا معينة لا تتجاوز حدودا معينة تتعلق بالسياسة العامة للدولة ولطبيعة النظام. من خلال استعراضنا للأحزاب واستعلامنا عن مواقفها والقضايا التي تدافع عنها، يمكننا أن نتعرف على قطبين اثنين، قطب داعم لسياسة الدولة الرسمية و يساند توجهاتها العامة و يشارك فيها بالدعم و الترويج، و قطب يعارض سياسة الدولة و ينتقدها باستمرار في ما يخص قضايا تخص عموما السياسة الاقتصادية و تدبير الحقوق و الحريات. نجد في القطب الداعم للدولة، التي تعتبر فاعلا أساسيا في الصراع من أجل الهيمنة، أحزاب إدارية يمينية تم إنشاؤها لتنظيم الأعيان و الليبراليين في تنظيمات سياسية تشكل دعما لسياسات الدولة في المؤسسات و الاعلام [مثلا حزب الأحرار، الحركة الشعبية، الاتحاد الدستوري]. يعتبر هذا التيار توجها واضحا في السياسة بالمغرب من حيث الدعم المباشر الذي يقدمه للدولة و سياساتها، بل هو امتداد للدولة العميقة و مكمل لها. يبدو أن المصلحة المتبادلة بين الدولة و الأعيان و الليبراليين هي التي تشكل طبيعة العلاقة و تحدد بالتالي القضايا و المواقف التي تتبناها هذه الأحزاب. هناك أحزاب أخرى في هذا القطب منها ما تنعت بالوطنية لمشاركتها في مقاومة المستعمر[حزب الاستقلال]، و منها الإسلامية المعتدلة[حزب العدالة و التنمية]، و للحزبين خصائص تضعهما ضمن خانة يمينية [المرجعية الدينية و التوجه الليبرالي و دعم السلطوية و التراتبية].
نجد في التوجه الثاني أحزابا عرفت بمعارضتها للنظام منذ الاستقلال معارضة أيديولوجية جذرية تحولت مع مرور الوقت و بعد حدوث تطورات عميقة في المعسكر الاشتراكي العالمي و مشاركتها في الحكم نهاية التسعينيات و حدوث انشقاقات بداخلها إلى تنوع في المواقف و القضايا و إلى ظهور تكتلات جديدة و اختفاء تكتلات قديمة. إذا كان من السهل وضع هذه الأحزاب في خانة اليسار [مقاومة السلطوية، الدفاع عن الحقوق و الحريات و المطالبة بعدالة اجتماعية]، فإن التقسيم الذي يفرضه الواقع و المتمثل في الموقع في بينية السلطة و الموقف تجاه النخبة الحاكمة، لا يسمح لنا بوضع كل هذا القطب في خانة اليسار لأن هناك تيارات راديكالية إسلامية كالعدل و الاحسان تنتمي لهذا القطب من حيث الموقع و إن اختلف التوجه الأيديولوجي مع باقي المكونات.
غير أن ما يمكن ملاحظته في ثالوث السلطة القائم في المغرب هو خضوعه باستمرار لتحولات ظرفية ناتجة عن تراجع دور الأيديولوجيات و المرجعيات في تحديد المواقف السياسية و خضوعها لمنطق المصلحة الظرفية و لبراغماتية سياسية واضحة تسعى إلى تحقيق البقاء في وضع سياسي يتسم بالصراع و التطور المستمر. و بالتالي لن نفاجأ بقيام تحالفات هجينة بين الإسلامي و الشيوعي كما حدث في الحكومة التي قادتها العدالة و التنمية، و بقيام تحالف بين اليسار الراديكالي و تيار الإسلام الراديكالي، و بتحول خطاب حزب البام إلى خطاب معارض رغم تكونه في رحم يميني، و بانسحاب الاتحاد الاشتراكي تدريجيا إلى القطب المساند للدولة، و بتغير خطاب العدالة و التنمية حسب الموقع في بنية السلطة.
غير أنه يمكننا استخراج عناصر الثبات في التحول و عناصر التحول في الثبات، فرغم التحول التكتيكي في مواقف بعض مكونات هذين القطبين، فإن هناك ثبات في الدفاع عن بعض القضايا دون غيرها، كدفاع بعض مكونات اليسار في القطب الثاني عن الحريات و الحقوق و العدالة الاجتماعية بصوت واضح و متميز، في مقابل خفوت صوت تيارات أخرى. كما أن التحول في مواقف بعض الأحزاب في القطب الأول تمليه المصلحة الظرفية التي أصبحت هي المبدأ الثابت في التحول التكتيكي لأحزاب كالعدالة و التنمية و البام.
يبدو من خلال هذا التحليل المقتضب للوضع السياسي أن ازدواجية اليمين و اليسار لم تعد المحدد الفريد و الوحيد للتيارات و الأحزاب السياسية لأن التوجه و المواقف تتحدد بالموقع في بنية السلطة، و أصبحت هناك محددات أخرى لها علاقة بالمصلحة و الظرفية التاريخية و بقوة الصراع و السعي نحو البقاء و مقاومة النسيان و الاختفاء. ما وقع لازدواجية اليسار و اليمين هو نفس الشيء الذي حدث للعامل الاقتصادي في التفسير الماركسي لعلاقة الأفكار بالطبقة، بحيث أنه إذا كان الوضع الاقتصادي و الانتماء الطبقي لا يحدد الأفكار التي يتبناها الفرد، فإن الموقع من بنية السلطة[معارضة أو مشاركة] هو الذي يحدد الخطاب [مفهوم الاستجواب لالتوسير] كما أن الظرفية التاريخية تساهم في تحديد المواقف و القضايا حسب نظرية بنية الفرص السياسية، حيث تتغير مواقف و قضايا الأحزاب حسب قوة النظام و ضعفه، انغلاقه و انفتاحه، و تماسك النخب المشاركة في الحكم. ما وقع في 2011 أثناء الربيع العربي غير من نوعية المطالب و رفع من سقفها و غير مواقف الكثير من الأحزاب و الحركات. كان ذلك ممكنا عندما كان النظام في وضعية ضعف، لكن تغير الوضع لصالح هذا الأخير حين جمع الجميع حول القضية الوطنية و تدبير جائحة كورونا.
نلاحظ بهذا الصدد أن الثالوث السياسي رغم اختلاف تموقعات مكوناته يشكل كلا واحدا، و أن كل تيار هو تمظهر لهذا النظام و إن انتقد المكونات الأخرى. يشترك الجميع في النموذج، إن انتقدوا النموذج على مستوى الخطاب، فهم يمارسون، و لو جزئيا، ما انتقدوه من تجاوزات في الواقع. الدولة العميقة تمارس سلطة ناعمة [و غير ناعمة] تهدف إلى تحقيق هيمنة على الأفكار و السلوك الاجتماعي و السياسي، و هذا حقها ضمن لعبة سياسية معترف بها و متفق عليها من طرف كل الاطراف المشاركة، كما أن لباقي المكونات نفس الحق في العمل على منازعة هذه الهيمنة، التي لن تكون فاعلة إلا بالابتعاد عن الدوغمائية و كما يؤكد على ذلك Dick Hebdige
"بتقديم آراء و بدائل، ليست فقط صحيحة، بل مقنعة و مقدمة بطريقة مقنعة، آراء تأسر المخيلة الشعبية و تهتم بمواضيع و مشاكل و تخوفات و آمال لرجال و نساء حقيقيين: بتعبير آخر آراء تأخذ المجال الشعبي [ و بالتالي العامة] مأخذ الجد و بشروطه الخاصة".
أستاذ باحث/ جامعة شعيب الدكالي
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة