هم ليسوا من فئة التجار المتعارف عليهم كما أنهم ليسوا بالمتطفلين على حرفة التجارة إنهم بكل بساطة أناس وجدوا أرباحهم صافية خالية من الضرائب و مصاريف كراء المحل و غيرها ،إنهم ظاهرة أفرزتها مجموعة عوامل اقتصادية و اجتماعية ،تجدهم في كل حارة و شارع ووسط كل زقاق و ممر يتهربون و يبيعو خلسة بعيدا عن عيون رجال السلطة و أعوانها ، إنهم الباعة المتجولون،فأرباحهم صافية لا يكدرها همّ الإيجار أو تكلفة رسوم المهنة.. وباعة لا يحدهم مكان أو يستقر بهم مقام.. إنهم الباعة المتجولون الذين شكلوا مع مرور الزمن،ظاهرة تميزت بها شوارعنا وأرصفتنا وأسواقنا التجارية..فبعد أن كانوا مجاميع صغيرة من أصحاب عربات متوزعة هنا و هناك تلاحقهم دوريات الحد من هذه الظاهرة،أصبحوا اليوم يكوّنون فيما بينهم أسواقاً متخصصة في البيع،فهذه مجموعة تخصصت في بيع الفواكه و تلك في بيع الحلويات و الخبز و تلك في بيع " صيكوك " و الفواكه الموسمية " الهندي " و أخرى في الألبسة وتلك في بيع العطور
لعل من السمات التي أضحت بارزة في المشهد العام لكل من مدينة الجديدة و مدينة آزمورعاشقة المجانين المتميزة بصغر حجمها و قلة شوارعها و بساطة سكانها هي ظاهرة الباعة المتجولين التي استقطبت عددا هائلا من هؤلاء الباعة الوافدين من مختلف المناطق المجاورة للمدينة و بعض المدن التي حل بها الجفاف و أصبح العيش و توفير القوت من المستحيلات،باعة من كل صنف ومن كل لون مشكلين سوقا تجاريا على طول ممر طريق مولاي بوشعيب الرداد و درب القشلة بآزمور و شارع محمد الخامس و قرب السوق المركزي وبوشريط للامريم بالجديدة،أما عن عن دور القائمين عن شأن المدينة و منتخبيها فهو آخر شيء يمكن أن يفكروا فيه إلا لماما و كأن الأمر يستهويهم باعتباره مصدر رزق إضافي للبعض و فرصة لكسب أصوات لدى البعض الآخر لتبقى المدينة هي الخاسر الأول و الأخير،و بحديثنا عن هذه الظاهرة فيمكن أن نجزم أن هناك مجموعة من الأسباب التي تساعد على انتشارها منها البطالة و الهجرة القروية وقلة فرص الشغل ، فهلا أدركنا معا سلبياتها و ما تشكله من إعاقة للتنمية بالمنطقة و تشويه للمنظر العام و....و هل من حلول لاحتوائها وضبطها و جعلها موردا للخزينة العامة للدولة و للمجالس الجماعية ؟
و حسب الباحث و الفاعل الجمعوي المحامي المرشدي فإنه يعتبر ظاهرة الباعة المتجولين إن الباعة المتجولين هم أشخاص يقومون ببيع بضاعتهم بطريقة عشوائية غير مستقرة، في موقع أو منطقة غير محددة مخالفين النظم والقوانين،أما هويتهم القانونية فليست لديهم بطاقة شخصية أو ترخيص لممارسة البيع لأنهم مخالفون لنظم العمل،والباعة نوعان: الأول متجول متقيد إذ يقوم بالبيع لمصلحة أشخاص آخرين أو لمصلحة منشآت تجارية،والثاني يعمل لحسابه الخاص ولا يتبع لأية منشأة، أما مواقيت عملهم فمختلفة على حسب مواقعهم، إذ يعمل البعض صباحاً والبعض الآخر مساء وهناك أشخاص يعملون طوال اليوم،وليس لديهم موقع ثابت لمزاولة البيع إذ تتغير حركة الباعة من حين إلى آخر حسب طبيعة وحركة المدينة وحيث يتمركز الجمهور،هناك باعة الأحياء السكنية وتتركز هذه النوعية في الأحياء السكنية والصناعية حيث يقومون ببيع الأقمشة والمنسوجات والملابس الجاهزة والأدوات المنزلية والكهربائية، وباعة المطاعم والمقاهي والمحلات وتقوم هذه النوعية ببيع الأدوات الصغيرة كالساعات ولعب الأطفال،ويتواجد باعة الحدائق والمتنزهات عند الحدائق والمتنزهات ويقومون ببيع المشروبات والمكسرات، أما باعة المساجد فيتواجدون خارج المساجد ويقومون ببيع سجاد الصلاة وصور العلماء والمراجع الدينية والعطور والكتب والمسابح، أما باعة الأسواق المركزية فيفترشون الأرض وخاصة الرصيف المجاور للأسواق المركزية وعرض جميع الأجهزة والمواد الموجودة في الأسواق وبيعها مع احتساب نسبة من الأرباح أعلى من أسعار الأسواق بقليل .
عربات محملة بشتى أنواع البضائع،الفواكه،الخضر،الخبز،الحلوى،النعناع .. و أرصفة مفترشة بأخرى من شبيه الملابس و الأواني،و هناك نوع آخر فضل صنع صناديق متنقلة شبيهة بالدكاكين و اختيار لها أحسن المواقع التجارية لبيع سلعته،معترضين بذلك الرصيف و الشارع على كل عابر الذي لا يلزمه سوى التحلي بالصبر و الجلد و سعة الصدر للمرور بسلام،هذا بغض النضر عن الأصوات المزعجة التي تغطي فضاء هذه العشوائية و التي تصطحبها أحيانا ألفاظ نابية في إطار المنافسة بين البائعين .
مزيج من الكائنات،فثمة الشيوخ و الشباب و الأرامل و المطلقات حتى الأطفال لم يسلموا من هذا السوق حيث تجدهم يبيعون الأكياس البلاستيكية و السجائر بالتقسيط أما بعض الشباب ضحايا لعنة الأقدار فيتخذون أركانا خاصة بهم لبيع ما من شأنه لف الدماغ و تدويخه بشتى أصناف المخدرات .
لقد أضحت<عاشقة المجانين >بحكم موقعها الجغرافي فضاء خصبا ورحبا لاستقطاب الباعة المتجولين فهي مدينة محاطة بالنسيج يضم مجموعة قرى إضافة إلى قربها من مدينة الدار البيضاء المزود الرئيسي لهؤلاء الباعة إضافة إلى العجز الكبير الذي يعرفه شوق الشغل داخل هذه المدينة مما يشكل هوة ساحقة يتخللها انعدام التوازن و تكافئ الفرص .
إن أغلب الأجوبة التي حصلت عليها من خلال بعض الباعة تنم عن قرب تذمرهم من هذه الحرفة التي يلعنوها لأنها جعلتهم لقمة سائغة في فم بعض رجال السلطة و أعوانها و كذا بعض المنتخبين رغم ضعف المدخول اليومي الذي لا يسد سوى الأكل و الكراء أحيانا أما الضروريات الأخرى فتبقى كحلم قد يتحقق أو،لا،أنا أغلبهم قادمون من القرى المجاورة (مهيولة،الحوزية،أولاد رحمون،هشتوكة ،سيدي علي ،...) هاربون من قسوة الحياة اليومية و ظروف العمل الصعبة في الفلاحة،أما النساء فأغلبهن مطلقات أو أرامل حتى أن البعض منهن مارسن مهنة بيع الجسد و لما تغيرت الوقت و اشتد عليهن الخناق و انسدت أمامهن الأبواب تحولت لبائعات متجولات أو قارات عند رصيف الشارع .و في جولتنا عبر الأصناف التي تزاول هذه العملية اكتشافنا أن هذه الظاهرة لم تعد مقتصرة على الشيوخ و النساء بل أنها شملت حتى حاملي الشهادات الجامعية حيث إن بعضهم أخد ركنا من الرصيف لبيع سلعته التي يأتي بها إما من الشمال أو البيضاء،و ذلك بسبب قلة فرصة الشغل أو صعوبة حصولها على قروض لتمويل مشاريع خاصة بهم يقول أحدهم : (لقد بحثت عن عمل لمدة خمس سنوات بدون جدوى و لم أجد أمامي إلى هدا الركن من الرصيف و هذه السلعة،رغم أني أعرف أنه ممنوع هدا النوع من التجارة ،لكن ما العمل،و الآن أحمد الله هناك ربح رغم أصحاب الحال الله يهديهم حتى يديهم ) و هناك نوع آخر من الباعة المتجولين ممن قذفتهم يد التسريح العمالي و لفضتهم معالمهم لسبب أو لأخر ليجدوا الرصيف ملاذا لهم و صدرا رحبا لنيل رزقهم رغم متاعبه،لقد أصبحت شوارع المدينة و أزقتها حقلا خصبا لهده الظاهرة التي تزداد استفحالا يوما بعد يوم و بإحصاء طفيف قمنا به خلال نهاية شهر يوليوز الأخير حيث تعرف هذه الظاهرة رواجا مكثفا سجلنا أرقاما و لو أنها غير تامة إلا أنها تعكس بعمق مدى استفحال الظاهرة .
أما عن الجهات المسؤولة داخل المدينة فإن حملاتها تكون في أغلب الأحيان مناسباتي و ما عدا ذلك يبقى الحال كما هو عليه في الوقت الذي يشتكي فيه التجار المنظمون القانونيون الذي يؤدون الضرائب على الأرباح و الضريبة العامة على الدخل و ضريبة " الباتنتا " إلى غيرها من واجبات الكراء و الكهرباء و الماء،يبقى الباعة المتجولون متحررون من كل هذه المصاريف التي في حد ذاتها تضيع على الدولة إلا من إتاوات تعطى يوميا بطريقة أو بأخرى لتكمم الأفواه إما نقدا أو سلعة بيد أن ظهير المنظم لاختصاصات الجماعات المحلية يتيح إمكانيات واسعة لهذه المجالس لوضع مخططات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية للتنمية بالجماعة .
فأعضاء المجلس التي تعاقبت على بلدية آزمور يستغلون هؤلاء الباعة وقت اللزوم في الانتخابات ، حتى أن بعض المستشارين الجماعيين يوفرون لهم الإقامة و الدفاع عنهم عند حجز موازينهم من طرف السلطات المحلية،عوض إحداث مراكز تجارية دورية أو قارة بمختلف الأحياء خصوصا البعيدة منها عن وسط المدينة مع توفير التجهيزات الضرورية لها بأثمنة مناسبة أيضا لتمكنها من تنمية مداخلها .
لقد أثرت ظاهرة الباعة المتجولين بشكل سلبي على الاقتصاد المحلي المنظم كما خلقت نوعا من المنافسة غير المتكافئة،الشيء الذي أدى إلى إفلاس بعض التجار القانونيين،إضافة إلى العشوائية التي تحدثها داخل المدينة و تشوه جماليتها بالأزبال و الأوساخ المتراكمة هنا و هناك بالإضافة إلى عرقلة حركة السير و المرور و سد منافذ أبواب العمارات و المحلات التجارية،ناهيك عن بيعها أحيانا لمواد فاسدة و مضرة بسلامة المستهلكين لعدم خضوعها للمراقبة الصحية،أملنا أن تتكاثف الجهود للحد من هذه الظاهرة بحلول يرضى عنها الجميع حتى لا يكون هناك لا ضرر و لا ضرار رغم أن هذه الظاهرة تعكس بجلاء ووضوح ملامح الأزمة السياسية و الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية المحتدمة في مجموعة من المدن التي تولد هذه الظاهرة و تطعمها برجالاتها يوما بع الآخر،فظاهرة الباعة المتجولين إنما هي انعكاس واضح لفشل مشاريع التنمية والتحديث المختلفة وتردى وانهيار المشاريع الزراعية القائمة وضعف بل وانعدام الخدمات الأساسية فى العديد من المناطق المهمشة مما أدى إلى ظاهرة النزوح والهجرة الداخلية تلقاء مدينة آزمور أو الجديدة على السواء بحثاً عن فرصة تعليم أو عمل أو بحثاً عن العلاج والخدمات ...
كما أن هذه الظاهرة إنما هي الوجه الآخر لزيادة ظاهرة الفاقد التربوي والانقطاع عن التعليم أو عدم الدخول في منظومته أصلاً نتيجة لعوامل الفقر أو التفكك الأسري و الاجتماعي، إذن لكل هذه العوامل المتشابكة المعقدة التي تكتنف ظاهرة الباعة المتجولين فينبغي استصحاب كل هذه الأبعاد المختلفة في حال التعاطي معها ... وينبغي أن يراعى أي حل لهذه المشكلة إيجاد بدائل معقولة للباعة المتجولين تسمح لهم بوسائل العيش والكسب الشريف .
إنجاز : محمد الصفى
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة