في خضم الإعداد للانتخابات التشريعية تقوم الأحزاب بالبحث عن مرشحين لهم القدرة على الحصول على مقعد بالبرلمان، لكن مسألة البحث عن المرشح المناسب تضع في الواجهة المعايير التي يتم بموجبها اختيار هذا المرشح. هناك مقاربتين تجعل من المعايير المعتمدة إشكالية سياسية تستوجب التفكير في الأبعاد و النتائج التي ستترتب عن اختيار إحدى المقاربات أو اختيار المزج بينهما حسب السياق و ظروف كل دائرة انتخابية.
المقاربة الأولى تضع القدرة المادية على تمويل الحملة المعيار الأساس في تحديد المرشح الذي يتم اختياره في دائرة انتخابية معينة. قد يكون هذا المعيار مسألة بديهية لأحزاب تعتمد تركيبتها على الأعيان و أصحاب النفوذ السياسي، كالبرلمانيين السابقين أو رؤساء الجماعات المحلية. لكن هذا المعيار يصبح إشكاليا في أحزاب تعتبر نفسها أحزابا مكونة أساسا من مناضلين، قد يكون بينهم أشخاص لهم قدرة مادية على تمويل الحملة و قد يكون اختيارهم منطقيا بصفتهم مناضلين أولا. لكن المسألة تطرح نفسها بإلحاح عندما يتم تبني ترشيح لأحد الأعيان من خارج الحزب يكون المعيار في اختياره أساسا هو المال بغض النظر عن قناعاته السياسية و توافقها مع سياسة الحزب المضيف. من البديهي أن يكون دافع هؤلاء الأعيان للترشح هو الدفاع عن مصالحهم الشخصية و يكون استعدادهم لصرف مبالغ ضخمة من الأموال يدخل في إطار استثمار مالي ذا طابع سياسي يهدف إلى حماية مصالحهم بالدرجة الأولى، التي قد تتعارض مع مصالح الشعب أو الفئات من الشعب الذي سوف يمثلونها في البرلمان. المدافعون عن هذا النوع من الترشح يدعون تبني نظرة براغماتية واقعية تتعامل مع الواقع السياسي كما هو بحيث تبرر الغاية الوسيلة بما فيها الاستعمال المشبوه للمال الذي قد تتساهل معه الأحزاب. فمادام الهدف من الانتخابات هو الحصول على أكبر قدر من المقاعد بالبرلمان فمن الضروري، حسب هذا الرأي، استعمال جميع الوسائل الممكنة، و مادام قانون الترحال يمنع التنقل من حزب لآخر خلال فترة الانتداب بالبرلمان، فيمكن خلال هذه الفترة تلقين مبادئ الحزب بطريقة تدريجية للأعيان الفائزين بمقاعد برلمانية باسم الحزب. هذه المقاربة المبنية أساسا على الخضوع لشروط الواقع دون العمل على تغييره قد تخلق لنا مشهدا سياسيا يشبه لحد بعيد المشهد السياسي الحالي، برلمان مكون في أغلبه من مقاولين سياسيين لا هم لهم سوى تعويض الأموال التي صرفوها على الحملة الانتخابية و حماية مصالحهم الشخصية المباشرة.
المقاربة الثانية تجعل من النضال المعيار الأساس لكل ترشح بغض النظر عن الإمكانيات المادية التي يتوفر عليها هذا المناضل، و التي من المفروض أن يوفرها الحزب. يدافع أصحاب هذه المقاربة عن ضرورة ترشيح مناضلين يؤمنون بسياسة و برنامج الحزب لأن ذلك سيضمن في حالة حصولهم على مقعد بالبرلمان ولاءهم للحزب و سيعيهم لخدمة مصالحه، و سيساهم ذلك في الرفع من المستوى السياسي للتمثيلية الحزبية داخل البرلمان، و سنرى حوارا حقيقيا بين برامج سياسية تختلف أو تتقاطع حسب التحالفات أو الأدوار التي يلعبها كل حزب داخل البرلمان. لكن المناضل و خصوصا من ليست له إمكانات مالية إضافية لتمويل حملته الانتخابية محكوم عليه بالفشل خصوصا في المدن المتوسطة و الصغيرة و في البوادي لأن أغلبية الناخبين إما يقاطعون الانتخابات أو يصوتون لمن يدفع أكثر أو لمن يدينون له بالولاء القبلي أو العائلي. بالإضافة لذلك يبقى مفهوم المناضل مبهما لأن معايير النضال تختلف حسب الأحزاب، فهناك الاقدمية و السجل النضالي و القرابة العائلية و الصداقة التي تربط المناضل بالأمين العام و بالديوان السياسي، لكن هناك معيار لا يدخل إلا نادرا في تحديد مفهوم النضال و هو النضال كسلوك يومي في شكل حركية داخل المجتمع و مشاركة الناس مشاكلهم و تأطيرهم و قيادة حركاتهم الاحتجاجية ضد الظلم و الفساد. هذا النوع بدأ في الانقراض داخل الأحزاب لأن من ينخرط في الأحزاب يستهلك مجمل وقته و طاقته في صراعات داخلية حول المناصب وحول الحصول على الامتيازات، لذلك تبدو خطاباتهم بعيدة عن هموم المواطن العادي و يصفها البعض بلغة الخشب، عباراتها رنانة و استعاراتها جميلة لكن معانيها فارغة لأنها فاقدة للمرجعية و لا تحيل إلا على الكلمات الفارغة التي تكونها و لا تحيل بتاتا على الواقع الفعلي. إن النضال هو سلوك يومي يهدف إلى تغيير الواقع نحو الأحسن و هو فعل متعدي يسعى لتغيير الآخر نحو الأفضل و الرفع من مستوى الوعي لدى الشعب. إن من يناضل بهذا الشكل و بهذه الوتيرة قد لا ينجح في الحصول على مقعد في البرلمان في المستقبل القريب و لكنه يساهم فعلا في إحداث التغيير. النضال الحقيقي هو محاولة تحقيق لتغيير تاريخي على مستوى الثقافة و البنية الاجتماعية و السياسية، لذلك لا نحكم على نتائجه إلا بعد مرور عقد أو عقدين أو أكثر لأن هذا هو قانون التغيير الحقيقي الذي تؤكد مصداقيته الأحداث التاريخية الكبرى. يجب أن تكون مشاركة المناضل في العملية الانتخابية مشاركة نوعية فاعلة في تشكيل الوعي الجماعي وفق مبادئ الديمقراطية و الشفافية والوطنية.
الإشكال الحقيقي الذي تواجهه الحياة السياسية في المغرب هو غياب نخب سياسية مناضلة بالقدر الكافي داخل الأحزاب و هذا سبب واحد من بين أسباب أخرى تجعل الأحزاب، بما فيها اليسارية، تنجذب للأعيان و رجال الإعمال و تجعل الحياة السياسية رهينة لنخب غير مناضلة ولها مصالحها الخاصة، البعيدة بطبيعة الانتماء الطبقي أو الفئوي عن مشاكل الفقراء و العمال و الشعب على العموم. إن سيطرة رجال الأعمال و أصحاب المصالح الاقتصادية الشخصية و الفئوية ستؤدي وفق حتمية تاريخية إلى سيطرة الأثرياء و رجال الأعمال على دواليب السياسة. الاحتجاجات التي عرفتها نيوروك نهاية شتنبر و تأججت يوم 15 أكتوبر و انتشرت في مختلف الدول بأوروبا و آسيا و استراليا هي ردة فعل على سيطرة الليبراليين الجدد على اقتصاد العالم وعلى سياسته وعلى جشع هذا الاقتصاد و تنكره لحاجات الشعوب الأساسية، و دليل على خطورة هذا التوجه السياسي في المغرب نحو الاستمرار في خلق نخب سياسية تتشكل أساسا من مقاولين سياسيين و تبخيس دور المناضل كفاعل أساسي و تاريخي في تحقيق التغيير المستدام و الشامل في المجتمعات البشرية.
محمد مفضل
جامعة شعيب الدكالي الجديدة
الموضوع نشر ايضا بجريدة الاحداث المغربية يوم 20 اكتوبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة