في كتابه المثقف و السلطة[1996/ كما ترجمه محمد عناني2006]،يعتقد إدوارد سعيد أن المثقف سواء كان بوهيميا أم مرتبطا بمؤسسات رسمية، فإنه ينتج عمله وفق تمثُل اجتماعي لذاته، تمثل يستبطنه المثقف من خلال تفاعله مع الجمهور. هناك مثقفون يبيعون أفكارهم، و هناك من يؤمنون بقيمة حقيقة الفكر الذي ينقلونهالى طلبتهم، و هناك من يدافعون عن وجهات نظر غريبة لكنها تتسم بالاتساق.إن مهمة المثقف بالنسبة لإدوارد سعيد هي أن يقول كلمة الحق في وجه السلطة؛ فالمثقف ليس شكَّاء بكَّاء لا يعرف الابتسام، بل إنه شخص قد يستعمل، لكسب انتباه الجمهور، بعض الدعابةالتييسعى من خلالها الىزعزعة خصومه. ليس للمثقفينمكاسبو لا ممتلكات لحمايتها. أسلوب التهكم من الذات و التعبير المباشر هماالأكثر انتشارا بينهم و الأكثر إثارة للقلق. يؤكد سعيد أن واقع أواخر القرن العشرين أنتج مثقفا مهنيا،أي مجرد فرد كفء ينتمي الى طبقة معينة و يزاول عمله فحسب. يمثل هذا المثقف بالنسبة لسعيد مهنيا مجهول الهوية. يعتبر سعيد المثقف بالأحرى ناقدا معارضا يطرح علنا أسئلة محرجة و يقدم تمثُّلات و مفاهيم ووجهات نظر و فلسفات يمكن أن تساهم في تحقيق تغيير اجتماعي. المثقف هو شخص "يصعب على الحكومات و المؤسساتاستقطابه والذي يكون مبرر وجوده هو تمثيل الأشخاص و القضايا التي عادة ما يكون مصيرها النسيان أو التجاهل و الإخفاء"[سعيد 2006/ 1996: 43-44]. إذا كان هذا هو تمثل سعيد للمثقف، فإنه يصبح نوعا من المثالية الرومانسية في الواقع الفعلي بالمغرب. لن أقول إنني لم أشاهد قط نماذج من هذا النوع من المثقفين على أرض المغرب، لأنهم تواجدوا دائما و مازالوا يتواجدون و لكن و لأسباب معينة يبقى هذا النوع بشكل ملحوظ من العيارغير المألوف.التقيت كذلك نماذج أخرى من المثقفين تشبه ما يسميه سعيد بالمهادنين أو بناة التوافق، لكن ظهر مؤخرا نموذج اجتماعي في الوسط الأكاديمي و الذي أسميه متهكما "نوعا مستنسخا من العناكب"، نموذجا هجينا للمثقف المهنيالذي يجمع بين بناة الإمبراطورية و المهادنين الاجتماعيين، أكاديميا غير مناسب لم يسبق أبدا التنبؤ بظهوره من قبل.
ظهر هذا النوع المستنسخ من الأساتذة الجامعيين في السنوات العشر الأخيرة في الوسط الأكاديمي المغربي بعد انقراض المثقفين الذئاب حسب مفهوم غيلنر(Gellner)للذئب و الذي نتبناه لوصف النخبة في المغرب. ظل الأستاذ الذئب في السلطة حتى نهاية القرن الماضي لأن المناخ السياسي كان استبداديا و لأن بنيات الجامعة كانت تُستعمل لاستقطاب النخبة التي كانت تُظهر الولاء للسلطة الحاكمة و تُرَوج لإيديولوجيتها. عندما كنت على التوالي طالبا فأستاذا في تلك الحقبة، تطور تطبُّعي[الهابتوس] الأكاديمي داخل هذا المناخ الذي ساد فيه عمداء و رؤساء شعب متسلطون، يُعيدون إنتاج نموذج الشيخ و المريد. نشأ الرجل العنكبوت، إذا جاز التعبير، و الذي كان زميلا معاصرا لي، وسط هذا المناخ السياسي و تمت تنشئته الاجتماعية، بالمعنى الفوكوي، وفق هذه الخطاطات الثقافية. لقد تم بناء هذا النوع المستنسخ ثقافيا ليتوفر فقط على قدرات عنكبوتية مهادنة و سهلة الانقياد. لكن لِمَلم تظهرالذئاب ثانية ؟ معالتغيير الاجتماعي الذي شهده المغرب في إطار العهد الجديد الذي عمل على تأسيس مؤسسات ديمقراطية و ربط تحمل المسؤولية بالمحاسبة، أصبح الذئب غير قادر على الاستمرار لكنه لم يختف نهائيا، بل غيَّر شكله و خُططه.لقد ساعدتهقدراته المكتسبة علىتحويل نفسه إلى عنكبوت بشبكة ضخمة تمكنه منالاستمرار في السلطة.
بما اننامنتجات ثقافية، فإننا نتصرف وفق ذخيرة و مهارات ثقافية تدربنا عليها و بها. عادة نكون نحن المثقفين واعين بعملية التنشئة التي نخضع لها و نحاول أن نعدل المهارات و الخطاطات و التقنيات و الأفكار و الخطابات التي لا تتلاءم و متطلبات رفاهية المجتمع. لسوء الحظفإن الرجل العنكبوتي لا يفكر بالطريقةنفسها، رغم أن شخصية الرجل العنكبوتي التخييلية(Spiderman)تتميز بحبها للعدل.ان عقلية الريع الثقافية تشكل رؤية العالم لمثل هؤلاء الأكاديميين. عندما يستولون على السلطة، يشرعون في تنشئة العنكبوت الوحش بداخلهم لبناء الإمبراطورية. فحسب العقلية الثقافية التي يشتغلون بها تصبح المسؤولية المنوطة بهم غنيمة و تتشكل العلاقات المصلحية التي يقيمونها وفق نموذج العلاقات العشائرية التي تمت تنشئتهم عليها. تتحول الجامعة تبعا لذلك إلى قبيلة و تتحول ميزانياتهاو ثرواتها الى غنيمة. يا لها من كارثة لو بقي الأستاذ العنكبوت في السلطة مدة أطول مما هو متوقع!
في سعيها الى امتلاك نفوذ كبير كنظرائها السياسيين، تخطط نخبة المثقفين العناكبلعملهاعبر بناء إمبراطورية، حسب تعبير بورديو. بعبارة أخرى، يتحول الأستاذ الجامعي إلى أستاذ بانٍ للإمبراطورية. يُراكم رأسمالا اجتماعيا من خلال مشاركته في لجن اختيار و توظيف الأساتذة المساعدين، والإشراف على أطروحات الدكتوراه، وتقييم مشاريع التأهيل، و احتلال ثلاثة مناصب أكاديمية أو أكثر في بنيات التسيير بالجامعة. تكون قيمة عمله عادة ضعيفة لأن هدفه الأسمى ليس الوصول الى الجودة في العمل،بل بناء شبكة من العلاقات لاستغلالها لقضاء مآرب شخصية؛ يتوق باستمرار للحصول على نصيب من الغنيمة الأكاديمية. يتمتع بامتيازات كالتعويضات، والترقية السريعة، وتذاكر الرحلات الجوية، ومصاريف الإقامة بالفنادق، وعلاوات، وعطايا، وبدلات، وحصص الربح، و مبالغ إضافية تُقدم له على أساس استحقاق زائف. على المدى البعيد يصبح جشعه للسلطة أكثر حدة لدرجة أن المدينة التي توجد بها الجامعة تبدو له كأرض للغزو حيث بإمكانه الحصول على بعض الغنائم. يصبح بإمكانه، بهذه الطريقة، استعمال رأسماله الاجتماعيلاختراق دواليب السياسة المحليةولانتزاع نصيبه كعنكبوت بالتعاون مع عناكب أخرى قادمة من قطاعات أخرى للسيطرة على المجالس البلدية.
حكاية نشأة
خلال الفترات التي هيمن فيها الذئب حتى حدودسنة2000، كانت تحكم العديد من الأساتذة في الجامعات الخطاطات الثقافية للخوف و الخضوع لمن يمتلكون السلطة. كنت واحدا منهم. كنا نعتقد أن العميد نموذج مصغر للحاكم و أن الجامعة مزرعته الخاصة. كان يُشغِّل أفراد قبيلته و يحكم بقبضة حديدية. مازلت أتذكر أن العديد من الأساتذة كانوا يرتجفون في حضوره و يعتبرون كلامه أوامر. كان قادرا على تدمير مشوارهم المهني و كانوا يعرفون ذلك. و كان بإمكانه التسلل حتى إلى حياتهم الاجتماعية. لكن يبدو غريبا الآن مثلا أن تطلب من أستاذ حديثالتوظيف أن يسكن بالمدينة التي توجد بها الجامعة.خلال فترة هيمنةالاستاذالذئب، كان الأساتذة الذين يتنقلون بين المدينة التي توجد فيها الجامعة وبينمدنهم للتدريس مطالبين بتقديم شهادة السكنى بالمدينة التي تحتضن الجامعة إذا كانوا يطمحون للحصول على الترسيمفي الأستاذية. لم يكن الذئب متسلطا طول الوقت بل كان حاميا و سلطويا على السواء. كأب لنا جميعا، كان الذئب سيدا. تنافس معه الأساتذةالعناكب الكبار، و الذين بدأوا هم كذلك في اعتبار أنفسهم تدريجيا كآباء، و اعتبروه مهددالمصالحهم. بالتأكيد لم يُعبِّروا أبدا عن قلقهم بهذه الطريقة المباشرة بل ألبسوا مصالحهم الشخصية رداء القيم النضالية و المثل و تبعناهم. كانوا نجوم المعارضة في الجامعة و احتلوا مواقع قيادية في نقابات الأساتذة.
التَفَّ بعض الأساتذة المناضلين حول أنفسهم و كونوا مجموعة صغيرة يجتمع أعضاؤها كل مساء بمقهى بوسط المدينة. على هذه الخلفية الاجتماعية انبثقت أرضية لتناسل العناكب. تدربوا جيدا على تدبير المكائد و المؤامرات. يشاركون في الاجتماعات بجدول أعمال مُعد مسبقا. يختارون مسبقا زعماءهم في النقاباتو ينظمون انتخابات صورية لإعطاء ذلك الانتخاب شرعية ديمقراطية. في الاجتماعات يصرخون بأعلى صوتهم لإرهاب البعض و لإزاحة آخرين عن مواقع المسؤولية؛ كانت أصواتهم تهز جدران المدرج الذي يكون نصف ممتلئ بجمهور منبهر. رغم أن العناكب صامتة طبيعة، و عملها سري للغاية، فإن العناكب الإنسانية طورت لنفسها أصواتاجهورية. كانت نبرة أصواتهم علامة على الثقة. و أقنعَنا عرقهم و تنفسهم العميق أنهم قادة المستقبل. كل العناكب، عزيزي القارئ، تدربت في هذا المناخ، و من هنا ندرك الاختلافات التي تميزهم عن الذئاب الذين تلقوا تنشئة اجتماعية مختلفة. دخل الأساتذة الذئاب بنيات السلطة في الجامعة بفضل رأسمالهم الاجتماعي. تسلموا مسؤوليات في البنيات الأكاديمية ليس نتيجة لعملهم و لكن لولائهم للنظام التقليدي للدولة [المخزن].
لنرجع الى مرحلة تكوُّن الأستاذ العنكبوت حين شهدت الجامعة تغييرات في القوانين و المساطر، و بدأت الذئاب في الاختفاء و طفا العنكبوت على السطح: من الجوانب المظلمة للمقاهي إلى الأضواء في مواقع المسؤولية بالجامعة. فقدوا جهورية الصوت و تحولوا إلى عناكب أليفة لكنهم احتفظوا بترسانة أسلحة المؤامرة. لبسوا البدلات الآن و أصبحوا يتحملون المسؤولية. لا يكتفون بتقلد مهمة واحدة بل يتم انتخابهم لعدة مناصب. سأطلعكم على طريقة تمكنكم من التعرف على العنكبوت في الجامعة المغربية. أي أستاذ يتحمل أكثر من مسؤولية، اعلم أنه عنكبوت. لا يجيد عادة عمله و يتوق فقط للحصول على التعويضات و الغنائم. سأسرع هنا لأوضح أنه لا يمكنكم الخلط بين العناكب والأساتذة المناضلين الذين يحتلون مواقع داخل بنيات السلطة. أسماء الفئة الثانيةو أعمالها تدوي في كل الأرجاء. المثقفون العناكب بارزون للعيان، هم دائما مشغولون و ووقتهم لا يكفي على الإطلاق؛ لا تتوقف هواتفهم عن الرنين و شفاهم في حركة دائمة. أنصحك زميلي العزيز أن تحْذر السقوط في شبكة العنكبوت لأنها موجودة في كل مكان. إذا وقَعْت، ستشهد تآكلا تدريجيا لهويتك الثقافية التي تميزك بفضل الفكر الاكادميالذي اكتسبت.
بالتأكيد لقد أطاح هؤلاء العناكب بالذئب من زعامة الوسط الأكاديمي. نجحوا لكنهم كوَّنوا مجموعات مصالح وشيدوا شبكات اجتماعية تواقة إلى الهيمنة عبر شبكات الجامعة. أصبحت الجامعة الآن تحت سيطرتهم. ما لا تعرفونه هو أن العنكبوت لم يشيد شبكاته فقط للاستمرار في السيطرة و حماية الامتيازات التي يتمتع بها بل خطط لتعاقد على أساس الاستنساخ.تقَوّتالعناكب و كوّنت قبيلة كبيرة عبر الإجراءات التي حدَّدها المؤسسون الأوائل لهمللترقي. تساعد شروط الترقي كما هي معمول بها بالجامعات على إعادة إنتاج نموذج الأستاذ العنكبوت. لتصعد السلم الوظيفي بالترقي السريع كما يسمونه، يجب أن تكون عنكبوتا. لست بحاجة الى نشر أطنان من المقالات لتربح المنافسة، كما يجب على أي أستاذ أن يفعل.لا تفعل، ستحصل مقالاتك على نقط ضئيلة. يجب أن تكون عنكبوتا. يجب أن تحتل مواقع سلطة مختلفة في الجامعة، هذا ما يعطيك الرخصة للترقي. من حدد معايير الترقي؟ إنهم الآباء العباقرة للعناكب. أرادوا أن يضمنوا بذلك استمرارية النوع الذي ينتمون إليه.
إذا ما تمت مأسسة هذا التطبع [الهابيتوس] العنكبوتي في الوسط الجامعي، فليرحم الله الأجيال القادمة لأنها إما أن تتحول إلى عناكب وإلا سيتم ابتلاعها من طرف هذه الكائنات المفترسة. توجد مؤسستنا التربوية، مثل باقي المؤسسات العمومية، في أزمة. يبدو أن الخطاطة الثقافية للبحث عن الغنائم التي مازالت موجودة في ثقافة و خطاب الريع تهيمن على البنيات السلوكية لبعض الأساتذة. تُصادف في الوسط الجامعي أساتذة مدربين بتطبع عنكبوتي مُؤسَّس على تكتيكات الخداع كمهارات جسدية تحظى بتقدير عال [موفي : ابحث عن مصلحتك] ،[زطَّط: تجاوز الصعوبات]، [لَوعورية: مهارات عالية]، [لَقوالب: حيل]، [ خَرَّج راسك: انقد نفسك]. كل هذه تعابير ثقافية شعبية تُستعمل في السوق و نُقلت إلى المؤسسة الجامعية في أوقات لتُستعمل في عبارات تلطيفية أو حتى في اللغة الازدرائية لتُعبر عن مجموعة من الاختيارات الممكنة بالنسبة للأستاذ العنكبوت. لازلت أتذكر تعليق أحد الأساتذة المتأثرين بالنموذج الثقافي للعنكبوت عندما حصلت على الترسيم الوظيفي: " الآن نكحت الإدارة، قضيبك بداخلها". عندما ناقشت أطروحة الدكتوراه و حصلت على دكتوراه الدولة، واجهني ثانية بنفس الاستعارات:" كانت خصيتاك متدليتين بالخارج. الآن أصبحت كل أعضائك التناسلية بالداخل". يتم تصوير الإدارة في هذا الخطاب الأسطوريكامرأة تدفع لك أجرا مقابل معاشرتها. تُظهر الاستعارة الجنسية الإدارة كمغفل ثقافي، امرأة ضعيفة سهلة المنال، و نحن، هيئة التدريس، أقوياء و فحول نلعب بأعضائها التناسلية لأغراض مادية – تظهر عقلية الغنيمة والريع بوضوح تام في هذا المثال.
يقوض التطبع العنكبوتي روح الرأسمالية التي تقدس العمل. التغيب و البحث عن رخص للغياب هي أشياء يتعلق بها هذا النموذج الاجتماعي للأساتذة. هناك أساتذة يتلقون أجورا من الدولة مع أنهم يعيشون في بلدان أخرى. يحضرون الى الجامعة مرة كل شهرين أو يتغيبون مدة أسدس كامل. يجب فقط أن يكونوا محميين من طرف زملائهم العناكب و ذلك من أجل أهداف لها علاقة بالغنائم. تكفي الإشارة إلى أن الإدارة تعج بالأشباح و الموظفين العناكب. الأشباح هم موظفون يتلقون أجورا دون أن يقوموا بأي عمل مقابل ذلك. إنهم يعيشون من عرق الآخرين. ارتفعت العديد من الأصوات مؤخرا في وسائل الإعلام احتجاجا على هذا النوع الاجتماعي لكن عبتا. يحتاج العنكبوت الى الشبح لتوسيع مجال رأسماله الاجتماعي لأن الشبح يتوفر على علاقات قوية تغطي على غيابه عن العمل. أين هي الوطنية هنا؟ ماذا فعلت الدولة لعلاج هذه المشاكل و تنشئة المواطنين على الإخلاص و التضحية من أجل الجماعة؟ بكل صدق، أعتقد أن المغرب مازال بدون شك بعيدا جدا عن الاستثمار في ثقافة المواطنة لملأ الفراغات التي تركها تراجع الدين من الحياة العامة. لا يوجد حضور قوي للدين في تربيتنا. بدأ التمييزبين الحلالوالحراميتآكل مع شروط تطبيق الرأسمالية. ما نسميه تربية إسلامية هي أيضا هجينة، خليط من القيم غير المتناسبة، سلفية و شعبية ، و التي ندعي أنها متجذرة في الإسلام. لا تسيئوا فهمي، فأنا لا أطالب بإرجاع الدين الى المعادلة أو إخراجه منها. ينبغي أن يُؤسَّس المشروع الثقافيفي المغرب على الدين لكن مع توسيعه ليشمل القيم الأخلاقية العلمانية التي يمكن أن تشكل منافسا للروح الإسلامية في الاقتصاد و السياسة. صدقوني، إذا لم نستثمر في الأجيال القادمة عبر دعم ثقافة المواطنة و دمقرطةالحياة العامة لقطع الطريق على ثقافة العنكبوت، سيكون المستقبل مظلما.
علاج
لأنني متفائل و واثق جدا من أن هناك مناضلين في السلطة، أعتقد أن الوقت مازال غير متأخر إذا ما أردنا أن نشن حربا ثقافية حقيقية. أكد الملك مؤخرا على الترياق عبر تأكيدهفي خطاباته على إعطاء الأولوية للرأسمال الثقافي في السياسة الوطنية و المحلية. أظن أن الوقت قد حان!أينما نظرتُحينما أكون داخل جامعة مغربية أو أي مؤسسة عمومية –لا حاجة لذكر المؤسسات الخصوصية- لا أرى إلا حملانا و معزا رابضين في الزوايا، عمالا منصاعين منعزلين يعتريهم شعور بالحقد الاجتماعي، و بقية من الذئاب تتمشى في الردهات، و عشيرة متنامية من العناكب في كل مكان. لا يجب أن أنسى أن أقول لكم بأن هناك كلابا مثلي تنبح بأنغام مختلفة لكن لا تهاجم أبدا. كيف نستطيع أن نحارب العقلية الثقافية للعنكبوت، خصوصا إذا كان العنكبوتالآن مربِّيا، الأمر الذي يسهِّل لهنقل خطاطاته الى الجيل الصاعد من العناكب الفتية التي هي في طور التكوين. نحتاج أن يَرْشح الحل الذي نقدمه إلى كل الميادين و إلى البنية الاجتماعية والاقتصادية حتى نضمن تثبيت مفهوم المواطنة.
المواطنة ليست برنامجا دراسيا يتمتلقينه في المدرسة. إنها طريقة حياة يجب تدريب المواطنين المغاربة عليها. يجب أن يوجد تصميم سياسي غير متردد لتوحيد المجتمع حول هذا المشروع. يجب أن تتوافر مجموعة كبيرة و كاملة من الموارد الثقافية والسياسية والاقتصادية للنضال من أجل هذا الهدف المثالي. ليس هذا الأمر مهمة خاصة بأجهزة الدولة الإيديولوجية، بل يجب حتى على الأجهزة القمعية أن تشارك في نشر مثل هذه الإيديولوجية. لنأخذ كمثال على ذلك الدور الذي تقوم به الشرطة في بعض الدول الغربية و كيف تساعد مؤسستهافي تنظيم العمل داخل المدارس. وكمثال آخر نذكر استدعاء الطلبة للخدمة العسكرية لمدة و جيزة و العمل التطوعي الذي تقوم به منظمات المجتمع المدني في دول أخرى – لا داعي لتذكيركم بالدور الإيديولوجي لمنظمات المجتمع المدني. لن أقدم هنا لائحة للمتدخلين لأننا نعرفهم لكن أود أن أثير انتباهكم لتفصيل يمكن أن نكتشف من خلاله العمل الضخم الذي يمكن للثقافة أن تقوم به إذا ما وُجِّهت وسائلها. يمكن أن يكون الطبيبالذي تلقى تكوينا مهنيا خبيرا في تخصصه لكنه يحتاج لبعض الغذاء الروحي ليصبح رجلا محبا لأعمال الخير. لا أؤمن بالطبيعة البشرية، أو بوجود ميول إنسانية قبلية تجعل الإنسان أصلا اجتماعيا و أخلاقيا.كل شيء من فعل التاريخ. نُطْبع بالتاريخ و هوياتنا محددة اجتماعيا. لا يمكن للطبيبالذي أُنشِئ على قيم المواطنة و الذي يقرأ الأدب أن يتجاوز الحدود التي تفرضها الأخلاق الاجتماعية. عادة ما يلجأ الاطباءالى المخزون الديني لتأصيل فعل الخير لكن و كما أشرت سابقا فإن درع الإيمان بدأ في التصدع أمام رمح الرأسماليةالمادية. يعتبر الخطاب الديني عنصرا أساسيا في نظامنا التربويلكنه أصبح اليوم غير قادر على مقاومة النموذج الجديد لمكدولنة[من ماكدونالد] مجتمعاتنا. لن يستطيع الخطاب التقليدي حول الدين أن يتعامل مع تعقيدات الحياة المعاصرة. لا يمكننا حاليا أن نستمر في العيش بإيديولوجية القبيلة و الغنائم. نحتاج أن نصوغ ولاءات وروابط اجتماعية جديدة لنوطِّد النسيج الاجتماعي. يجب أن ندرب أنفسنا على الحوار و تدبير الخلاف و قبول الاختلاف. يجب أن نعترف بسيولة حيواتنا، هوياتنا و علاقاتنا الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية. إننا لا نحيا بالجوهر بل بحقائق (بلاستكية) قابلة للذوبان. إن هذا الابدالالثقافي الجديد، والخطاب الجديد حول الدين، والعلمانية و الثقافة العضوية للشعب، هي التي بإمكانهاإنقاذنا. مدرستنا، أسرتنا و تربيتنا الدينية كما هي اليوم لا تطَّعِم نظامنا المناعي بلقاح كاف لتمكينه من مقاومة لذغاتالعناكب. إذا استمرت الدولة في صياغة سياساتها في تجاهل تام لمواردنا الثقافية، فإن أعشاش العناكب القوية ستحتضن بيضا يفرخ جيلا جديدا من العناكب. إنهم سامِّون و ظاهراتيون و بإمكانهم تغيير الوضع القائم. ستغير لدغتهم النظام كله الى امة عناكب.لو ظهر هذا العنكبوت الدراكولا(dracula) على الساحة، فقل سلاما على الحملان و المعز. حتى الكلاب ستُمسخ لتصير عناكب.
(المقال من The African Bulletinعدد فبراير 2015 ،الترجمة من الانجليزية: ذ. محمد مفضل
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة