قبل أن نعالج إشكالية التطرف الديني، نود في البداية أن نلفت الانتباه إلى حقيقة هامة مؤداها أن الإسلاموية لم تولد وحشا كاسرا وجب علينا القضاء عليه من خلال حرب أهلية. إنها الثقافة الحية للإسلام التي تلد فكرا متطرفا تحت ظروف ومعوقات سياسية واجتماعية واقتصادية سنتطرق إليها بتفصيل في هذا المقال، وهذا لا يعني أننا نقلل من أهمية العوامل الخارجية التي أدت إلى ظهور الإسلاموية في المغرب، إذ هناك عوامل موضوعية مشتركة كتأثير الحركات الإسلامية في الشرق (الدعوة والتبليغ وحركة الإخوان المسلمين والسلفية الوهابية) على عولمة الحركة الإسلامية. وللحد من المد اليساري الماركسي الناصري الصاعد ومحاربته في مغرب السبعينيات، قام نظام المخزن بتشجيع نشأة الشبيبة الإسلامية. و يروي مصطفى عكاشة (2008) كيف استطاع النظام المخزني مقاومة المد الماركسي: وفد على المغرب علماء الحركة الإسلامية من الشرق، و أنشئت دار الحديث الحسنية سنة 1964 بهدف إيديولوجي، وهو محاربة الماركسية وقومية عبد الناصر، كما أصبح المغرب سوقا لترويج كتب الإخوان المسلمين، وطبع المناضل علال الفاسي كتب السيد قطب داخل حزبه سنة 1969. وشددت السلطة الخناق على الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، واستثمرت في ظهور الشبيبة الإسلامية على الساحة الجامعية لمحاربة اليسار، حيث احتدم الصراع بين اليساريين والإسلامويين، وأسفر عن اغتيال عمر بن جلون عضو الاتحاد الاشتراكي وعبد الرحيم المنياوي عضو حزب التقدم والاشتراكية سنة 1975.
ليست كل الجماعات الإسلامية عنيفة وليس كل قادتها أمراء دم، فهناك حركات إسلامية مندمجة تعتمد وسائل احتجاج مؤسساتية وبصور سلمية، حيث شارك العديد منها في عملية التحول الديمقراطي داخل بلدانها. ففي المغرب على سبيل المثال، يلتزم حزب العدالة والتنمية بقواعد اللعبة السياسية ويؤمن بشرعية الحكم الملكي. وفي الجزائر، شاركت جبهة الإنقاذ في السياسة الجزائرية وفازت في الجولة الأولى من الانتخابات في عام 1991، لو لم يتم طردها من المشهد السياسي سنة 1992، مما أدى بها إلى اللجوء إلى رفع السلاح في وجه النظام، بينما لينت جماعة العدل والإحسان المتطرفة وشبه المحظورة من قبل الدولة من خطاباتها النارية التصعيدية ضد النظام، واكتفت مؤخراً بالمطالبة بالإصلاحات الدستورية ومحاذاة مطالب الربيع العربي في المغرب. ورغم ما أظهرته الجماعات الإسلامية المحلية من تعلم سياسي و مشاركة في استقرار بلدانها، لا تزال في أعين الغرب "منطقة رمادية"، حيث يعتقد البعض انه إذا انتصر الوحش، سيطبق سياسات مناهضة تضر بمصالح أوروبا والولايات المتحدة.
إن السؤال الذي لا يزال مطروحا حتَّى الآن ونود الإجابة عنه في هذا المقال هو ما هي الدوافع والأسباب التي أدت ولازالت تؤدي إلى ظهور إسلام راديكالي عنيف يهدد استقرار المجتمع المغربي؟ هل الأسباب خارجية محضة لها علاقة بتأثيرات إيديولوجية عنيفة؟ أم هناك كذلك أسباب داخلية تولد طاقات بشرية محتقنة وحاقدة ومستعدة لتفنيد أي مخطط للانتقام من المجتمع من جراء التهميش و الهدر الذي طال كرامتها الإنسانية؟ كما ذكرت سابقا نحن لا نستبعد التأثير الإيديولوجي، فهو مهم جداً، لكن دعونا نتأمل في هذا المقال أولا أين سيتم توطين هذه الإيديولوجيات؟ لماذا تستقبل هذه الحاضنة الاجتماعية فكرا متطرفا؟ ما هي العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى قبول شرائح واسعة من المجتمع المغربي الانخراط في هذا الإسلام الاحتجاجي الذي يزود الراديكالية العقائدية بخزان بشري مهم بين الفينة والأخرى؟
التهميش البنيوي
يجد تطرف الثقافة الدينية في مغرب اليوم حاضنة اجتماعية تتكون من مصادر كبيرة من المجندين الرابضين في أوساط اجتماعية مهمشة ومحرومة اقتصاديا، وعلى الرغم من وجود علاقة مباشرة بين الفقر وتطرف الثقافة الدينية ، أضحت هذه النظرية متقادمة ومتجاوزة في نظر الكثير من الدارسين نذكر منهم شقرون 2005 ولمشيشي 1994 والديالمي 2005 وبارجتير 2009، حيث ينمو الإسلام المتطرف في المناطق التي تم تهميشها على مدى أجيال، مما يرمز إلى وجود تفاوت كبير في التنمية بين جهة وأخرى من البلاد . و نذكر حالة الريف مثلا، لما سخط النظام في السابق على هذه المناطق، ودك ما يسمى بانتفاضة الريف في عام 1958 وعام 1959، وعوقبت طنجة وتطوان في عام 1980 من جراء أعمال الشغب التي تلت انتفاضة الخبز، وتم تصنيف بعض مدن الشمال ضمن أوباش وحثالة العوام. ويجب الإشارة إلى أن الحرب المبكرة على الريف والتهميش والإقصاء الذي طال المنطقة بعد ذلك، ناهيك عن " غضب الجيش على الفساد وعلى الانقسامات المتزايدة في المجتمع المغربي نتيجة لعدم المساواة الاقتصادية " ( جوفي ، 1988 ، ص . 212 )، كل هذه العوامل تداخلت لتسفر عن تاريخ من الكراهية ومقاومة السلطة المركزية والرغبة في الانفصال لتأسيس "ريفوببليك" جمهورية الريف، كما أنها تجسد ت فعليا في قيام جنرالات من الجيش من أصول ريفية بانقلابين لعام 1971 و عام 1972. وفي الأساس، ساهم النفور من المحسوبية الإقليمية والقبلية في إضفاء شعور عميق بالتهميش لدى سكان المناطق الريفية. فأعيد تقسيم البلد إلى مغرب 'نافع' ومغرب غير نافع، وإلى أسر وجماعات قوية تتمركز في فاس والرباط و الدار البيضاء من حيث علاقات المصلحة المتبادلة، في حين لا تزال هناك جماعات و فئات خاضعة ، إن لم نقل جماهير عبر أنحاء البلاد، يهيمن عليها الحرمان والبؤس والوظائف ذات الأجور الضئيلة والفرص الاقتصادية المحدودة. انه لتآكل تاريخي للعلاقات والطاقات البشرية ترك ندوبا في الكرامة المشتركة بين الناس وفي مخيالهم الاجتماعي، سيتعذر محوها مع مرور الزمن. لقد أصبحت هذه الندوب عبارة عن مظالم يتألم الناس من وجودها في واقعهم اليومي، ويحاولون التخلص منها عن طريق ترويضها من خلال ممارسات ثقافية، من قصص حياة وأغان جماعية، و طقوس كالحضرة وصرع الجن وطرد العين الشريرة، وحكايات عن مآسي الظلم والقهر السياسي، واعتناق إيديولوجيا العنف والدعوة إلى الجهاد، والهجرة والابتعاد عن موطن النشأة.
تعتبر اليوسفية كذلك مهدا لانطلاق الحركات التكفيرية في المجتمع المغربي، ونذكر على سبيل المثال حركة الهجرة والتكفير التي وضع لها الحجر الأساس يوسف فكري من اليوسفية، وهو من المتورطين في تفجيرات الدار البيضاء في مايو 2003. فشكلت اليوسفية كذالك مرتعا خصبا ونواة لإغناء صفوف حركات العدل والإحسان، والتجديد والإصلاح الذي يعتبر القاعدة الأساسية لحزب العدالة والتنمية، كما تعتبر هذه المدينة قاعدة للحركة السلفية الجهادية لمؤسسها بوشعيب ركيبة، ولا يجب أن ننسى أن عبد الفتاح الرايدي الذي فجر نفسه في مقهى الإنترنيت بالدار البيضاء سنة 2007، انطلق هو الأخر من مدينة اليوسفية. وجاء أكثر من أربعين من السجناء المتهمين بالإرهاب من اليوسفية: نذكر منهم على سبيل المثال إبراهيم حمدي، يوسف عداد، ميلود منظور، عبدالله بوزكارن، بوشعيب ركيبة، جلال العلمي والقائمة طويلة. إن قصة الحركات الجهادية المنبثقة من هذه البلدة ليست نتاجا فقط عن كونها نقطة توقف فقيرة يتوجه إليها عمال القرى المجاورة، بل أصبحت أوكارا لتفريخ إيديولوجيا العنف بسبب سياسات الدولة الاحتوائية بشأن النقابات العمالية. إن سياسة الدولة خلال الثمانينات وبهدف تهدئة حدة النشاط النقابي اليساري في صناعة الفوسفاط وإضعافه خاصة بعد إضرابات عام 1986، عملت على تجميد مجموعة من الأنشطة الثقافية والفكرية والرياضية التي ظلت على قيد الحياة حتى مطلع السبعينات. و بعد الضربات المتتالية التي تلقتها المدينة من تهميش وتجميد لدينامكية الفكر والجسد ، أصبحت البلدة تحتضر في غياهب النسيان والتقليد الأعمى، حيث تسلل الفكر التيئيسي إلى القلوب من خلال الخطب السلفية والتجمعات الدينية. و بدا الفكر المتنور يتلاشى، وطفا على الساحة فكر سلفي يميل أحيانا إلى التعصب والجهاد، ومن رواد هذه الفترة الشيخ السحابي الذي اجتذب الآلاف من الناس بخطبه الطنانة أيام الجمعة أمام أعين السلطات المحلية التي راقبت شهرته المتزايدة من بعيد. و بعد أن طفح الكيل، قامت السلطات بنفيه خارج المدينة حسب بعض الروايات، مما ترك المشهد فارغا للتكفيريين الجهاديين كأمثال بوشعيب ركيبة الذي قدم نفسه كبديل (لعلاج شامل لهذا الموضوع راجع زهير2007). وقد كان من الأجدر أن تنجز دارسات اثنوغرافية خلال هذه الفترة في المدينة لتعميق البحث في ما حدث حتى يتم تسليط الضوء على واقع اليوسفية التي أصبحت تصنع أعشاشا لمد إسلاموي عنيف.
الهجرة القروية
يمكن اعتبار مدينة الدار البيضاء بمثابة موطئ قدم قوي للحركات الإسلاموية باعتبارها مدينة تستقطب رأسمالية اقتصادية مهمة، فقد كانت منذ الثمانينات بوتقة تنصهر فيها الأفكار المتطرفة وانكب على هوامشها الضيقة مهاجرون من مختلف البوادي المغربية، وتعلق بعضهم بالأمل في العقيدة الإسلامية لرأب الصدع الذي أصاب العلاقات الاجتماعية القبلية بسبب نزوحهم الجماعي من المناطق القروية إلى المناطق الحضرية والتفكك الثقافي الذي حصل من جراء ذالك. وهكذا ، فإن معظم المجندين في التيار الإسلامي هم أبناء الفلاحين المهاجرين ( بارجتر ، 2009) ، وهذا ما يفسر لماذا ازدهرت الإسلاموية في الأحياء الشعبية سواء في المدن القديمة أم في ضواحي المدينة في شكل مدن الصفيح، حيث أحيت مدن الصفيح الهياكل القبلية و القيم التقليدية المحافظة من خلال العلاقات الاجتماعية الجديدة. هذا الخليط الهجين بدا كأنه لا قديم ولا جديد، وجذبتهم الخطابات المتخمة بالحقائق والقناعات والوعود الخالصة لتحقيق الاستقرار النفسي والعقائدي ضد متطلبات الحياة وإغراءاتها المتقلبة. وشكلت هذه الأحياء أرض الانشقاق الجديدة بالنسبة للسلطات المحلية التي كان يصعب عليها في بعض الأحيان أن تدخلها، حيث تنامت أعشاش من الإسلاميين داخل هذا الفضاء بحجة محاربة الرذيلة من فساد أخلاقي وسكر وعربدة وقوادة وبغاء وتناول مخدرات، وظهرت أشكال عدة من تطبيق الشريعة من تعزير وإنشاء محاكم غير رسمية تستند إلى "الشريعة" لتحاكم الجناة. وتقوت رغبة الإسلاميين في دعم الأخلاق الإسلامية المحافظة في وجه الغزو الثقافي الأجنبي و التغريب الذي طال النخب البورجوازية في المناطق الغنية ، حيث انغمست في أسلوب حياة و نظام قيم منعزل و بعيد عن ثقافة الجماهير.
التمييز الاجتماعي والسلالي
وفقا لإيكلمان (1976 ) ،لا يتصور المغاربة نظامهم الاجتماعي كفئات اجتماعية مهيكلة بشكل جيد وقائمة على المساواة، بل يقومون بدلا من ذالك بتحديد العلاقات الاجتماعية من خلال إدارتها "لشبكات من العلاقات الشخصية الديناميكية". والتركيز هنا قد يكون على التقارب في المسافة، والعمل والقرابة، ولكن العنصر الثابت في هذا النوع من البنيات الاجتماعية هو التسلسلات الهرمية المستقرة و المتناسلة من أصول سلالية شريفة أو من الأعيان ( خطاطات ثقافية لعصبية قبلية)، أو تلك التي تحكمها البنيات السلطوية المتجذرة في التاريخ من أولئك الذين ينتمون إلى بيت المخزن (أولاد دار المخزن). وتشمل هذه الهياكل المخزنية نخبا صغيرة من رجالات الدولة من أبناء اسر بارزة تتبنى نظام المحسوبية والمنسوبية، وخدمة مصالحها الخاصة ومصالح مجموعة من البرجوازية المحلية، ناهيك عن النخب الاجتماعية القوية الأخرى مثل العلماء والتجار ( بنحدو، 1997). وهناك تصور سائد لدى نطاق واسع من المتعلمين في أسفل الفضاء الاجتماعي، وهو أن نظام الحكم والاقتصاد في المغرب نمط ريعي بامتياز، يوجد في قبضة الأسر البارزة من فاس والرباط، ومن الأعيان والمجموعات القبلية الأخرى التي تشكل جوهر الأجهزة المخزنية ، والسلطة والامتيازات بيدها. و مع انطلاق برامج حكومية قصد تمدن وتعليم عموم الشعب في مغرب ما بعد الاستقلال، ولج الكثير من الشباب المدارس و أدركت الفئات المقهورة كيف سدت أبواب النظام،وكيف يمكن لعائلات بارزة أن تستخدم الضغط والمحسوبية والمنسوبية لتحقيق مصالحها، وانتابها شعور باليأس وخيبة الأمل، وتمكن الشعور بالتهميش والحقد من التسلل إلى قلوب بعض هذه الفئات من السكان، وغالبا ما كان يبلغ ذروته في تفجر الغضب بأشكال شتى، تارة يتجلى في الإجرام وتعاطي المخدرات أو الهجرة خارج الوطن، وتارة في مواجهة مع النظام بطريقة سلمية أو عنيفة، كتفجيرات الدار البيضاء مثلا، وقامت أحدث ثورة العاطلين عن العمل في سيدي إفني في يوليو–أغسطس 2008، ناهيك عن الاحتجاجات في الشوارع خلال قدوم الربيع العربي والتي تعتبر أحدث سيناريوهات /نتائج الاحتقان الاجتماعي، مما يدل على بدايات الشروق لصحوة الإنسان المقهور.
التخلف الثقافي: حينما تتأخر الثقافة المحلية عن مواكبة ابتكارات الحداثة
في واقع الأمر، لا يفسر الحرمان الاقتصادي وحده أسباب التطرف، فهناك عوامل أخرى تكمن وراء هذه الاختيارات المحددة اجتماعيا، وقد يلتقط الناس الذين يوجدون في أسفل الفضاء الاجتماعي ما تأتي به ثقافتهم من تعابير وأفكار ومعان ورموز وقيم...لإيجاد حلول لمشاكلهم. إن ظهور الإسلاموية هو أيضا نتيجة لصعوبة تكيف التقاليد الاجتماعية المحافظة مع صدمة الحداثة التي ولدها الزحف الاستعماري وفترات ما بعد الاستعمار . في حين أن النظام الذي أقام مؤسسات عصرية حديثة، لم يواكب تلك العملية بخلق مفاهيم وثقافة لتعزيز الحداثة والعلمانية الحديثة ، لأنه غالبا ما يكون غير قادر على إنشاء القوى الاجتماعية والبنيات الذهنية التي تمكن الناس من استبطان معاني تلك المؤسسات ورموزها، وبالتالي الحفاظ على أدائها الفعال. ففي تونس ، على سبيل المثال ، على الرغم من أن الدولة حاولت مساواة الإسلام بسلطة العقل وتعزيز الهوية الثقافية الفرنسية، لم تتمكن من تحقيق أي شيء، مما جعل الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة الاتجاه الإسلامي، يقول: " شعرنا بأننا غرباء في بلادنا". وكانت العلمانية بيئة غريبة على المناطق المحافظة في تونس، حيث تراجعت وتشبثت بالعقيدة الإسلامية في تجلياتها الإيديولوجية الأكثر تبسيطية .
العدالة الأخلاقية
مع تطبيق شروط الحداثة ظهرت أعراض الشعور بالضيق الاجتماعي في انشغال الناس بالأخلاق والمثل و الأعراف الاجتماعية (انظر مور، 1988؛ بارجتر ، 2009)، ففي المغرب مثلا، انهمك الخطاب الإسلاموي كثيرا في الآداب العامة، وطرحت الكثير من الأسئلة الأخلاقية من طرف حزب العدالة والتنمية في البرلمان، كما ذكرت الصحف المغربية في الماضي القريب (2007) أن حزب العدالة والتنمية عبأ 4000 من المتظاهرين ضد ما كان يشاع أن يكون حفل زفاف مثلي في القصر الكبير. وأنشأت مجموعة العدل والإحسان محاكم تأديبية غير رسمية تعنى بقضايا أخلاقية داخل الجامعات سنة 1990، وقامت هذه المحاكم بمحاكمات عديدة داخل حلقيات لطلبة بدرت منهم سلوكيات غير لائقة بالوسط الجامعي كتناول الخمور أو التحرش بالأخوات بالنسبة للذكور والتبرج و عدم الالتزام بالنسبة للإناث، وورد في روايات متعددة أن الطلبة والطالبات الذين تمت محاكمتهم قد تعرضوا للضرب في بعض الأحيان. وافتتحت هذه الجماعة أيضا ما أسمته "بالسباحة على الطريقة الإسلامية،" حيث قام أعضاءها بتقسيم المخيمات الشاطئية (بونعايم والحرشان) إلى قسمين، قسم خاص بالذكور وآخر خاص بالإناث، مكن هذا التقسيم الجنسين من السباحة في مناطق منفصلة على الشاطئ، ورغم عزل النساء عن الرجال، ظلت ولا تزال الأخوات تعانقن الأمواج ملتحفات بكسوة إسلاموية من حجاب وبركة وجلباب وما شابه ذلك، واستقطب هذا النوع من الترفيه الحلال حوالي 4000 مصطاف، وكادت هذه الظاهرة أن تنتشر لولا أن تم حظرها من طرف وزارة الداخلية برئاسة الوزير القوي آنذاك إدريس البصري. ودعت الشبيبة الإسلامية خلال بداياتها إلى استعادة الأخلاق في حملاتها بمنع الكحول والقضاء على الدعارة وتطبيق الشريعة، وبما أنها أرادت الحفاظ على أخلاق المجتمع، لجأت تلك الجماعات إلى شن هجمات على الجناح اليساري للطلبة العلمانيين.
إذا تأملنا تفجيرات الدار البيضاء والأماكن المستهدفة كالمطعم الإسباني والإيطالي وفندق فرح بخمسة نجوم والمقبرة اليهودية، نجد أنها أماكن ترمز إلى تفسخ أخلاقي من وجهة نظر المهاجمين،لأنها تأوي الدعارة وتناول الخمور وأنواع أخرى من الفاحشة. إن الهجوم الذي نفذ على المقبرة له دلالته وفقا للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويوضح جليا كيف يعمل خطاب الإسلام الراد كلي على تدويل مظالم محلية. إن هؤلاء الشباب القادمين من أحزمة البؤس (كريان توما وسيدي مومن) هم ضحايا التهميش وهدر الكرامة الإنسانية ، وحسب تحليلهم التبسيطي للمسألة بواسطة الأدوات التي التقطوها من ثقافتهم، تكونت لديهم قناعة أن الغرب الإمبريالي مسؤول عن مظالمهم. لا يوجد بعد سياسي أو اقتصادي في هذه القراءة، بل هي قراءة أخلاقية ساذجة لا تستند إلى أي مقومات تحليلية. يقول فرهاد خورسوكفار (2005) إن كثيراً من الشباب المسلم يعتقد أن الغرب مصدرا لمعاناتهم، وأن أحزانهم تأتي من سيولة الثقافة الغربية التي تحيا بحقائق بلاستكية قابلة للذوبان، ويتوق هؤلاء الشباب لمجابهتها بنظام أخلاقي إسلامي ثابت. ويناقش خورسوكفار على نطاق واسع تأثير الميتروبوليس على الشباب المسلم، إذ أن الاختلاط الجنسي الجامح والعلاقات الجنسية المحررة من قيود التقاليد وتفكك الأسرة الأبيسية في المدن العملاقة، ينظر إليها من طرف هؤلاء الشباب كهجوم مباشر على الإسلام، فيتم اللجوء إلى الدفاع العنيف عن العقيدة، ويجد هؤلاء الشباب إيديولوجيات جاهزة تجد في النصوص الشرعية ما يبرر هذا العنف.
هذا الإسلام الإصلاحي عادة ما يستقطب ابن القرية الذي يأتي من سياق اجتماعي محافظ لأجل الدراسة أو العمل في المناطق الحضرية. وبالنسبة لهذه الشريحة المجتثة المتنقلة، عادة ما يكون الولي وحرماته ذات استخدام محلي محدود. ففي الذهنية الأسطورية للمغاربة، يتمثل الولي بقدرته على علاج الأمراض و التوسط لتحقيق أماني ورغبات المتوسلين. لكن إسلام الجماعة ذا النزعة الصفائية يتبنى خطابا تجريديا مقنعا بالنسبة للوافد الجديد الذي مل من ثقافة الكراكير، ويوفر هذا النوع من التدين الأمل لأتباعه بتغيير ظروفهم المادية، و يعدهم بتحقيق تحررهم من نير الهيمنة . ويحدث أن ينجذب أولئك الذين ينتقلون إلى المدينة قصد الدراسة نحو جماعة إسلامية، وكثيرا ما ينتهي بهم الأمر عند عودتهم إلى ديارهم إلى تحولهم إلى دعاة، حيث يشرعون في استمالة وجذب شبان آخرين ذوي تعليم محدود إلى معسكرهم.
ساعد الفضاء الاجتماعي "للدرب" أو الحي بمعناه التقليدي للكلمة في تكاثر هذا النوع من الدعاة، وإلى يومنا هذا، لازالت الدروب الشعبية تعتبر قلاعا يتعذر الوصول إليها من طرف الغرباء، حيث تشكل هذه الفضاءات موطنا افتراضيا يقوم على أساس أن التقارب المكاني يستتبع بتقارب اجتماعي وعاطفي. لا تزال الأحياء الشعبية القوة الدافعة التي توفر الحماية للإنسان المقهور، حيث يتمرن على الإحساس بالانتماء إلى الجماعة، وتقديم المساعدة للجيران من باب الإيثار والعصبية القبلية التي تنمو بخطاطة أولاد الحومة/الدرب. يصبح الدرب عبارة عن قبيلة يواجه فيها الإنسان المقهور متطلبات الحياة بدعم من جيرانه، و ينشأ تضامن بين "أولاد الدرب"، ويمنحهم الفضاء هوية متجانسة نظرا للتواصل الاجتماعي اليومي، وللألفة الطويلة التي تجمعهم والرفقة التي تنتج حينما يكبرون معا، كما أنهم يتقاسمون الحياة والرضاعة والموت وظروفا أخرى. داخل هذا الفضاء يظهر الأنبياء ودعاة العدالة الاجتماعية مدافعين عن أخلاق الدرب، ومحاربين الانحراف والفساد الأخلاقي، مستندين في حربهم إلى إيديولوجيات إسلامية. وبينما يلجأ البعض إلى الكحول والسجائر والشيشة وأنواع أخرى من الإدمان، وآخرون ينخرطون في طقوس ورقصات وشعائر سحرية تلقي باللوم على صور نمطية اجتماعية، لطرد الإحباط والتحرر من حالة الشلل التي يعيشونها، يلجأ الجيل الجديد من دعاة العدالة الاجتماعية إلى حمل السلاح والجهاد. هذا الشباب الثائر المتشبع بأسطورة الشهادة لا يلقي باللوم على الجن والأرواح، بل على الحكام وحماتهم في الغرب، ويرى في تحالف الغرب مع الطغاة تمويها للقضاء على المعارضة الداخلية باسم الحرب على الإرهاب ، ويرفض ارتداء مناظير الغرب لمعرفة عالمه، لأن الغرب من وجهة نظره قوة إمبريالية توسعية تقوم على السلطة الرأسمالية الاستغلالية.
التطرف الرقمي
عملت الإنترنيت على خلق مساحات ثقافية جديدة تمكنت من خلالها الأفكار الإسلامية الراديكالية من الهجرة عبر الأوطان وربط تواصل بين مجموعات مسلحة من مختلف الجنسيات، فأصبحت الأفكار تعمم عبر الأقراص المدمجة، والقنوات الفضائية، والمواقع الالكترونية، ورسائل البريد الالكتروني خارج سيطرة أجهزة الدولة. ومن خلال قراءة في ما يروج في وسائل الإعلام والتقارير الاستخبارتية المسربة، والتكتيك المعتمد في التفجيرات والعمليات الانتحارية، يتبين لنا أن التنظيم الهيكلي الجديد أحدث قطيعة مع المنظمة العنقودية المتكونة من خلايا ووكلاء منتشرين في دول مختلفة. فأضحى الإسلام الراديكالي كحقل قوة بدلا من تنظيم ملموس. كلما احتاج الإسلاميون لتنظيم ملموس استندوا إلى هذا الحقل لإيجاده، فيستورد أو يبنى أو يظهر فجأة. لأن أولائك الذين يقومون بالعمليات الجهادية لا يحتاجون إلى تنظيم أنفسهم بطريقة تقليدية للحفاظ على نضالهم، ولا يحتاجون إلى تجمعات سرية، ولا إلى استقطاب مجندين، بدلا من ذلك هناك أناس تظهر وتختفي، وإجراءات تتحور، ليس من الضروري أن يوجد زعيم لتنسيق الجهود. فقد تستطيع الدولة القبض على المتمردين ولكن ليس على التمرد، خصوصا إذا كانت المثل والدعوة إلى الجهاد ضد المظالم لازالت قائمة. وقد يبارك قادة تنظيم القاعدة العمل الجهادي، ولكن لا يوجد لدى التنظيم أي مركز للقيادة أو السيطرة عليه. هذا هو أحدث جيل من الكوماندوز الإسلامي الذي يمكن أن يسمى بالجهاد دون قيادة (راجع سيغمان 2008).
لا أحد من الإسلاميين يرغب أن يمتهن حرفة "إرهابي"، لأنه بحاجة للفوز مرة واحدة فقط، ولذلك لا يوجد هناك إرهابيون في حاجة إلى تحسين مهاراتهم. وفقا لبيل (2002)، هناك ميزة كبيرة لحقل القوة وهي انه لا يعتمد على المهارات والكفاءة ، فقد يأتي هذا بمثابة مكافأة للحركة، و ما هو مهم هو اقتناع المجندين وإيمانهم بعدالة قضيتهم. وعلى عكس آبائهم الذين اختاروا التحرر السحري والحلول الانهزامية، قرر هؤلاء الشباب الثائر حمل السلاح لتغيير التاريخ. هكذا تصور الشباب الراديكالي الثورة على الأنظمة المستبدة ونادى بواجب الجهاد في الأراضي العربية المحتلة من قبل الغرب العلماني، والذي هو بمثابة دمية تتلاعب به قوى الشيطان الأكبر إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة، وتمسك العديد من الشباب الإسلاميين بحلم الجهاد ضد هذا العدو الشبح.
الحتمية التاريخية
إذا عدنا إلى مسألة الكراهية والسببية الاجتماعية والاقتصادية الموضحة أعلاه، فإننا نلاحظ أنها لا تشكل الإجابة الحل عن إشكالية التطرف، وإلا لكان غضب الفقراء وحقدهم على الطبقات الميسورة قد ساهم منذ فترة طويلة في إبادة الأغنياء. يجب أن نكون مقتنعين بأن التطرف الإسلاموي متعدد الأوجه ويشمل عوامل عديدة، في المغرب كما هو الشأن في بلدان أخرى في شمال إفريقيا . نذكر من هذه الأسباب على سبيل المثال، التراث الثقافي للمقاومة، والفقر والتهميش، والحقد الاجتماعي من جراء الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون، والتقاليد الاجتماعية المحافظة، والاحتكار القائم على الريع للتنظيمات السياسية و الاقتصادية من قبل العائلات البارزة، والتعليم الجماهيري، وانتشار التمدن، والهجرة القروية، والرأسمالية والعولمة، والمظالم الدولية كالحرب على العراق والعدوان على فلسطين، كل هذه الأسباب مجتمعة تشكل مزيجا قويا يتسبب في تطرف الثقافة والخطاب الديني. والحجة الرئيسية التي ينبغي أن نحتفظ بها من هذا المزيج القوي هي أن الإسلام شكل متكامل من السلوك الاجتماعي، و حتما يتشابك مع الثقافة الحاضنة التي ترعرع بين أكنافها ولا ينفصم عنها.
لا تتطور الإسلاموية في فراغ، ولكن تنبع من سياقات مشربة بإيديولوجيات النظم والمؤسسات الاجتماعية. ولأن الإسلاموية تعمل ضمن هذا البعد الاجتماعي ، يجب بالضرورة أن تعكس، إن لم نقل، أن تعيد إنتاج المنظومة السلطوية بمواقفها ومسلماتها، لأنها تختار أدوات التحليل والنقد وطرح الأسئلة من نفس الخلفية الثقافية التي تساؤلها، وفي نفس السياق، يمكن القول إن الإسلام المغربي مضمن داخل مؤسستين اجتماعيتين مرتبطتين بالثقافة المرابوتية والثقافة المخزنية. وتدعم هاتين المؤسستين هياكل اقتصادية ريعية تشكل الأسس الاقتصادية والثقافية التي تستند إليها السلطة السياسية في المغرب. وتساهم هذه الثقافة السياسية في ترسيخ علاقات اجتماعية غير متكافئة بين الحكام والمحكومين، وتحافظ على استقرار التمثلات الثقافية المستبطنة التي تجند الطبقات الاجتماعية التابعة للانخراط بمحض إرادتها في تفاعلات اجتماعية تحكمها تراتبية هرمية ثابتة.
اقتراحات
وفي الأخير، لا يمكن إلا أن نصنف هذه الحركات الإسلاموية كمنتجات ثقافية تخضع لتنشئة مرابوتية ريعية مخزنية، وبذلك لن تستطيع التحرر من مخزون هذه الأرضية الثقافية، إلا إذا قامت بإعادة النظر في برامجها التدريبية وخطاباتها بمنطق العقل وليس بمنطق النقل، حيث تصبح واعية بعملية التنشئة والتدريب الثقافي التي تخضع له، وتحاول أن تعدل المهارات و الخطاطات والتقنيات والأفكار والخطابات التي لا تتلاءم ومتطلبات رفاهية المجتمع.
ماهي المسؤولية الملقاة على عاتق النظام في هذا الصدد؟ كيف يمكن للدولة إطلاق سياسة تشاركية تعيد النظر في هيكلة العلاقات الهرمية الثابتة ما بين السلطة السياسية وباقي الشعب؟ هل يستطيع المخزن تفكيك بنياته الاقتصادية الريعية وبناء نظام اقتصادي إنتاجي قوي يوفر فرص عمل، ويستوعب جحافل العاطلين؟ هل ستقوم الدولة فعليا من أسفل إلى أعلى الهرم الاجتماعي بتثبيت مفهوم المواطنة ودمقرطة الحياة العامة وتنشئة الجماهير على الإخلاص و التضحية من أجل الجماعة؟ وكما ذكرنا في أحد المقالات السابقة، المواطنة ليست برنامجا دراسيا يتم تلقينه في المدرسة. إنها أسلوب حياة يجب تدريب المواطنين المغاربة عليه، ويجب أن يوجد تصميم سياسي غير متردد لتوحيد المجتمع حول هذا المشروع. و يجب كذلك أن تتوافر مجموعة كبيرة و كاملة من الموارد الثقافية والسياسية والاقتصادية للنضال من أجل هذا الهدف المثالي.
ما هو حاسم بالنسبة لجميع الأطراف هو أن تدرك أن الإصلاح والتحول السياسي والوصول إلى نوع من الحداثة المغربية سوف لن يتحقق إلا إذا تطابق مع ممارسات اجتماعية، وتم إنتاج أشكال ثقافية ودينية معيشة لمواكبته، وتواجه هذه الازدواجية ــ المتمثلة في إنتاج ثقافة وبنيات ذهنية تواكب ابتكارات الحداثة ــ جميع حركات التغيير في العالم العربي كمعوق لمشروع الحداثة. وهذا ما يجب أن تعيه الدولة والحركات الإسلامية والعلمانية التحررية: لا تحرر من أنظمة استبدادية دون خلق أشكال ثقافية شعبية تواكب خلع هذه الأنظمة، تلك هي الضمانات الوحيدة لاستقرار أي تغيير سياسي واستمراريته، وإلا ستضطر لإعادة إنتاج الثقافة السابقة التي تقوم على أسس استبدادية وبذلك تكرس استمرارية هذه الأخيرة. في المرحلة الراهنة، تواجه حركات التغيير في العالم العربي تهديدا يلوح في الأفق ويتجلى في الأغلبية الصامتة التي قد تعرض التغيير السياسي لخطر الخيانة بمعنى كرامشي للكلمة.
في الوقت الراهن، يوجد الإسلام أمام محك التحديث ومواكبة ظروف التغيير السياسي بعيدا عن التطرف، ونجادل مسترشدين بأركون (1992-4) أن هناك حاجة ملحة لنهج تعميم الثقافة والتقاليد من منظور نقدي متعدد التخصصات، والهدف الرئيسي من ذلك تفكيك "اللافكر" و"غير الممكن التفكير فيه" في الفكر الإسلامي القديم والحديث. وإعادة التفكير في التقاليد أو حتى "إعادة التفكير في القران" تحتاج إلى توسيع يشمل إعادة تفكير جديد في الإسلام بشكل عام من خلال تحليل السياقات التاريخية والسياسية والثقافية والاجتماعية والنفسية واللغوية، وبالتالي يصبح من الممكن تحرير "اللافكر" و"غير الممكن التفكير فيه"–مثل سيادة القانون والمجتمع المدني—لبدء إعادة بناء جذرية للعقل والمجتمع في العالم الإسلامي المعاصر(أركون 1994). تعتبر قضايا مثل طبيعة الوحي والكتاب المقدس ونظام الحقيقة ومقارنة الأديان والعلمانية والفر دانية، كلها "لافكر" و"غير الممكن التفكير فيه" بسبب الوضع المهيمن للعقيدة الأرثوذكسية في تاريخ الثقافة الإسلامية، لذلك فإن اللبنة الأساسية في هذا المشروع هي نقد العقل الإسلامي (أركون 1992)، وإعادة النظر في الاجتهاد الكلاسيكي المحكوم بالقيود المعرفية التي وضعها فقهاء القرن الثامن والتاسع الهجري، وتفعيل تحليل نقدي حديث لبنية العقل الإسلامي.
د. محمد معروف، باحث اثنوغرافي وأستاذ الدراسات الثقافية باللغة الانجليزية بكلية الآداب – الجديدة
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة