مازغان.. المدينة التي عبرت المحيط الأطلسي
مازغان.. المدينة التي عبرت المحيط الأطلسي

[...]منذ القرن الرابع عشر، وبدافع من هنري الملاح لو نفيغاتور، انطلقت البرتغال للقيام بحملة واسعة "لاكتشاف" الجزر والسواحل الأطلسية الجنوبية.

 

سفن ذلك البلد الصغير  تبحر حول افريقيا من أجل الوصول الى المحيط الهندي لتنمية التبادل التجاري المزدهر في الهند. هناك حيث يجب انشاء محطات تجارية على طول تلك الطرق البحرية، من أجل تموين السفن. هكذا بدأت تتشكل، بين ضرورة المراقبة والتموين، أول المدن البرتغالية بأفريقيا الشمالية. " في كل نقطة مختارة يتم انشاء ليس واحدا بل موقعين يتم تعميرهما بالسكان والدفاع عنهما،  يبعد كل موقع عن الآخر مسافة  سفر يوم برا  أو بحرا بكل أمان. وهذه الثنائية كانت من أجل التعاضد والتماسك التجاري، بتبادل المعلومات والقرارات العاجلة، والمساعدة بالمواد الضرورية للعيش والتعزيزات العسكرية في حالة الخطر ." وهكذا بالنسبة للغرب(Algarve) ما وراء البحار،  من سبتة و القصر الصغير(Alcacer Ceguer) طنجة(Tanger) وأصيلة(Arzila). وفي الجنوب، بأراضي المورو "اراضي السلم"، كما كانت تطلق البرتغال على ذلك الاقليم في تلك الفترة: أزمور(Azamor) ومازغان(Mazagão)، أسفي(Safi) وأغوز(Aguz)، موغادو(Mogador)،وأغادير-(Santa Cruz do Cabo de Gué)

 

وتقع مازغان في قلب الشبكة، في إقليم دكالة، ما بين طنجة وأغادير. تلك الوضعية في الوسط كان لها مزيتين طبيعيتين: الخليج الذي تقع فيه مازغان  يعتبر كنقطة آمنة للرسو على طول الخط البحري للمغرب. ومن ناحية أخرى، فإن منطقة دكالة تعتبر من أغنى المناطق الفلاحية بالمغرب: كان قمحها قد وصلت شهرته خلال الاحتلال الروماني. وبعض المؤرخين قد ذهبوا الى القول بأن مزاغاو كانت محطة لبورتيسريبيتيس الذي اثارها بطليموس في خريطته.

 

مع أول سفينة برتغالية تصل الى  ذلك الموقع وذلك سنة 1502، تم ملاحظة وجود برج صغير للمراقبة في حالة خراب (تسمى البريجة). في سنة 1509، أمر ملك البرتغال بتشييد قلعة مربعة، بأربع أبراج، ومن بينها برج البريجة شرقا. وقد تم عهدُ الحكم لما سمي بالقصر الرئاسي(Castello Real) لمارتيمأفونسو(Martim Afonso). والخمسة والعشرون من الفرسان و مائة من المشاة تحن امرته من أجل حماية القصر لم يكونوا في حاجة لمجابهة جيوش شريف مكناس، مولاي زيان، ويتعين بسرعة هجر القلعة. وفي سنة 1514، بعد أن تمكنوا من أن يكونوا اسيادا بأزمور،  رجع البرتغاليون إلى المنطقة وعززوا دفاعات القصر، والذي أصبح يسمى: مازغان. وهذا الاسم له أصول أمازيغية، مازيغن، وتعني: " ماء السماء"، مصطلح يستعمل في المنطقة للإشارة الى الآبار المخصصة لتجميع مياه الأمطار.

 

لكن وبسرعة تطورت الحالة السياسية في المنطقة: لقد قام شرفاء مختلف القبائل، مولاي محمد بفاس، مولاي أحمد بمراكش و مولاي محمد  بتارودانت، ليعلنوا الحرب المقدسة من أجل طرد البرتغاليين من أرض الإسلام. وفي الوقت الذي بدأت فيه العديد من  الاماكن المستعمرة تتعرض للتهديد  أصبحت حركة التموين سواء من حيث الرجال والمئونة غير منتظمة، لدا قام الملك دوم جواو الثالث(Dom Joao III) باقتراح على المجلس، مغادرة العديد من القلاع المغربية من أجل تركيز القوات بمازغان (1534). ولا ننسى هنا بأنه في تلك الفترة كان كل اهتمام العاهل البرتغال موجه نحو البرازيل بحيث أرسل سنة 1530 صديقه الوفي مارتيمأفونسو دو سوزا  للسهر على الخطوات الأولى لتوطين البرتغاليين بالبرازيل. لم تكن تمويلات المملكة كافية، وديمغرافية البرتغال لا تسمح لها القيام بعمليات واسعة جغرافيا على جبهات متعددة. لذا قرر الملك دوم جواو الثالث  المغادرة  شيئا فشيئا العديد  من القلاع. وهذا ما وقع سنة 1550 بإخلاء أزمور، القصر الصغير وأصيلا.

 

وحدها مازغان بقيت تحت الاحتلال . لم تعد ذلك القصر العادي مع بداية القرن: يتعلق الأمر بقلعة في غاية من الدقة من حيث الهندسة بحيث تم تكليف مهندس إيطالي يسمى بنيديتودا رافينا(Benedeto da Ravenna). وهذا الأخير استعمل مازغان كحقل للتجارب من أجل تأكيد بعض الأفكار بأن المهندسين العسكريين الايطاليين يقومون بتحصين  القلاع : " هكذا كانت تلك المدينة على الحدود بين المسيحية والاسلام التي اصبحت أول مدينة مثالية للنهضة خارج أوروبا. شيدت لتكون  منيعة [...]، لقد تم إعدادها منذ البداية، ودون أن يعلم بذلك الملك دوم جواو الثالث، لتكون  معقل الغرب في العالم العربي والأطلسي من أجل تأمين التفوق  الأوروبي عبر العالم [...]. لا توجد أية وثيقة تثبت ذلك، لكن  يبدو وكأن ذلك مكتوب  بشكل ما" .  ذلك الشكل، في نفس الوقت معقد، سيقاوم كل الهجومات والحصارات، حتى عندما يكون المهاجمون يشكلون حوالي عشرون ضد واحد ! تم تشيدها على جبهة بحرية، فالقلعة تشكل صورا على شكل مربع نصفه سد مائي، فحينما تشاهدها من البحر تبدو وكأنها " مدينة عائمة "، كأنها مركب من الحجر، ما بين السهل والمحيط. تلك الحيطان، بعرض احدى عشر متر، ترتفع  فوق الأرض: " هناك في المدينة أكثر من  سبعمائة منزل، أكثرها بطابق، مع  شرفات، نوافذ وبوابات من حجر."

 

خنادق عميقة وطويلة حفرت من حول القلعة. القناة المحادة للحائط الغربي بين معقل سان جاك ومعقل سانت-اسبري يمكنه استقبال أهم  المراكب  في تلك الفترة ( يقوم  ملاح متخصص بإرساء المركب في مكانه )  . تمتلأ  مع المد، ويتم سد الدفة حتى  يمكن للمراكب  بكل أمان ان تمر داخل القلعة  عبر الجسر-المتحرك وباب الحاكم. وهناك مدخل آخر ، لكنه أكثر خطورة: باب البحر( porta do mar) ) يقع على امتداد زنقة داك اريرا(La rua da Carreira)، بشباك حديدي يفتح مباشرة على المحيط: لا يمكن استعماله الا في فترة المد  باستعمال قوارب حيث تبقى السفن في عرض المحيط.

 

ستتعرض تلك القلعة الفخمة للهجوم لتبين مدى أهمية تحصينها. في سنة 1561 قرر السلطان مولاي عبد الله (في العهد السعدي) بحشد جيش كبير من أجل وضع حد لتلك المستعمرة المسيحية، حيث وجودها ظل يشكل إهانة لبلاد المسلمين. فقام بالنداء على الموريتانيين، جمع بمراكش جيشا يتكون من 120 ألف رجل، من بينهم 37 الف فارس و 15500 من المشاة، مدعوما بأربعة عشر مدفعا . وحينما علم حاكم  مازغان بالأمر، طلب من   الوصي دونا كاتاريناالمساعدة اللازمة من أجل مواجهة الحصار.  فعدد 2600 من سكان مازغان  لا يستطيعون لوحدهم مواجهة تلك الجيوش. قام ابنه دوم سبستيان بالتأكيد على ضرورة تلك المساعدة. في المجموع التحق عدد 20 ألف من الجنود  بمازغان . من بينهم 600 فيدالغو(fidalgo)  حصلوا على ترخيص من الوصي لمغادرة لشبونة من أجل تقديم المساعدة لإخوانهم في السلاح.  ورغم ذلك فإن المعركة تبدو غير متكافئة:  كيف لتلك القلعة أن تواجه الحصار؟ لكن بالنسبة لحاكم موغاو، روي دو سوزا دو كفارفالو   (Ruy Souza de Carvalho) ، " ليس هناك فارس  برتغالي يخشى  قوة وتهديدات المورو؛ الجميع سيقوم بمقاومة وسيدافعون عن قلعة الملك-الصغير، عاهلهم، لأن كل الذين يوجدون في القلعة أقسموا على أن يموتوا أو ينتصروا في الحرب بالقضاء على عدوهم".

 

هكذا بدا الحصار...وتنفتح اسطورة مازغان. لقد قاوم المزغانيون بكل أوتوا من قوة، استعدادا للعيش تحت القصف المستمر. محاطون  بالخنادق والحواجز التي أقامها الجنود المغاربة، ولم يتبقى لسكان مازغان غير مخرج واحد- باب البحر، مفتوح على البحر يسمح بدخول الرجال والمؤونة، بين القلعة ولشبونة. لقد عرف السكان والجنود أصعب أيامهم من جراء الحرمان، لكنهم ظلوا مصرين على الصمود مهما كلف الأمر. وشيئا فشيئا بدأت حدة الحصار تخف، بسبب العدد الكبير من القتلى في صفوفهم. حينما قرر ابن السلطان، مولاي محمد برفع الحصار، وذلك بتاريخ 07 مايو، كان عدد قتلى جنوده يقدر بخمسة وعشرين ألف. وفي جهة البرتغال، قتل فقط 98 جنديا و19 مدنيا.

 

وذلك الصمود سيعتبر كفترة حاسمة في الدفاع عن المسيحية. وذلك لأنه ليس فقط في الحواشي حيث يقوم التهديد بل  هناك أيضا  حالة من عدم الاستقرار على الصعيد الداخلي  حسب اطروحات لوتر وكافان.  حينها كان جان انجيلو دي ميديشي منشغلا بالمفاوضات مع قنصل مدينة ترينتْ الايطالية، للاحتفال بالانتصار على "الكفار".  لقد كان انتصار مازغان صفقة كبيرة ! فرجل الدين والشاعر البرتغالي ارندري دو ريزند(André de Resende) كتب شعرا ملحميا باللاتينية احتفاء بنصر أولئك الجنود الشجعان: " De bellomazagonico" . مستوحات من مقطوعة  أسخيلوس، الفُرس، قصيدة موجهة للأعداء  كتحذير للمورو: "ابناء الاسلام، خلفكم معارك  حيث الرؤوس تتدحرج بين أرجلكم." بعد سنوات يقوم الشاعر اليسوعي انطونيو لوببز بدوره  كتابة قصيدة ملحمية: بخلاف  من سبقه، الذي لم ينشر خارج الحدود البرتغالية، فقصيدة"(مازغان الجميلة) لأنطونيو لوبيز سوف تصل الى غاية روما ! لقد كانت مازغان اذن فخرا للبرتغاليين. فصيت شجعانها سيفسح الطريق للمسيحية: لوحدها وحدت  الجميع (من الجندي البسيط حتى النبيل)  ستتكفل بدفع كل التهديدات. ومع تلك الأبيات الشعرية الملحمية، يتعين إضافة العديد من النصوص والرسائل، بالإضافة الى  إحدى الصور المعبرة عن الحصار: تم نشر رسم جميل لحصار مازغان من طرف  البرتغال، من الدعاية لمقاومة مازغان وبطولة البرتغاليين[...].

 

 

[...]من أجل استحضار  شذرات من اقوالهم، نتوفر  على وثيقة استثنائية اكتشفناها بين أرشيف الكونت دا كونيا في كويمبرا. ويعلق الأمر بقصيدة لا يعرف مؤلفها تحت عنوان: " القصة الحقيقية لما وقع في قلعة مازغان اثناء اجلاء الأفارقة في  11مارس 1769(Eglogue)" أي قصيدة قصيرة رعوية تتغنى بالحب ". هذا المخطوط التي كان جزء منه قد تعرض للعفونة، حسب علمي، لم يتم نشره بالكامل. يتكون من 78 مقطعا  من 8 ابيات في مقطع، يشير كاتب هذه القصيدة الطويلة  في  الخاتمة بأن الأمر يتعلق ب" Eglogue"   قصيدة  رعوية على شكل حوار. تضع في المشهد متوددا ومازغانيا اثناء  وصول هذا الأخير الى بيليم.

 

مع أول مقطع، يتم اثارة  عدم  فهم المتودد، حيث يرد عليه المازغاني الذي لا يُصدق ما يقع:

 

"إن الأمر يحز في نفسي يا صديقي

أن أراك تكابر من جراء الابتلاء

كيف لك أن تترك مدينتنا  مازغان

وهي من طرف المغاربة تحت الحصار؟

[...]

ما لك لا تجيب، يا صديقي، لماذا لا تجيب

هل بسبب غياب الشجاعة صمتك؟

لا تريد أن تتكلم بوضوح

لعلها تلك الأخبار السيئة

[...]

أين هي يا ترى قيمة الأفارقة

أين هي تلك المناوشات الشهيرة

أين هم الأموات، وأين هي الخسارات

وأين هي تلك الانتصارات

من فيكم يحكي النصر الذي طال لسنوات

أعطت رجالا وتركت حكايات

[...]

أه يا صديقي، يرد الأفريقي

تسكب الدموع وتتنهد

مازغان  تم هجرها الى الأبد

القلعة اصبحت في متناولهم

كل السكان هجروا

لم تعد لنا حاجة في مازغان

كلهم ركبوا البحر

ماذا تريد من مهزوم أن تعرف أكثر

تراني أبكي  في هذه الفترة

لأنني مضطر  في لحظة

أن أترك الى الأبد أرضي

لأجد نفسي منهكا، عاريا، معوزا

 

ومع ذلك فإن ذلك السف،  كان في البدء، أيضا مرحلة لإعادة التكوين. لهذا كان المازغاني في الخاتمة يبحث على إعادة تشكيل وحدة المجموعة، بدعاء للحفاظ على الذكرى:

 

" فهذه هي حكايتي يا صديقي

هكذا كانت حالة  مدينتنا مازغان

والتي بالكاد تبقى كذكرى

تلك الأطلال وذلك الخراب"

 

لم تعد مازغان منذ تلك اللحظة مدينة للملك، لكن تركت لسكانها. أما خارج الأسوار فظل التمازج الكامل  حاضرا بين المزغانيين ومدينتهم المغربية.

 

ماذا عن هذه القصيدة المثيرة؟ لم تكن مؤرخة، لكن بالتأكيد كتبت خلال عبور نحو لشبونة، تشهد عن الحالة النفسية للمزغانيين بعد الخروج من القلعة : أحاسيس تتخللها مشاعر الغدر والإحساس بالذنب، المرارة والغضب، الارتباك والهجران[...]

 

صورة لحصار مازغان (1781)

\"\"

 

المصدر: 

Mazagão-la ville qui traversa l’atlantique, Laurent Vidal, Edition Flammarion

لوران فيدال

ترجمة: بلمبخوت سعيد

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة