لم يأت المشرع بمدونة قانون السير من فراغ. فمقتضياتها
جاءت عصارة تجارب مريرة مع حرب الطرق، لتنظم حركات السير والجولان في المدارين الحضري
والقروي، بغاية التصدي للمخالفات المرورية، والحيلولة من ثمة دون وقوع حوادث سير، قد تنتهي فصول الدموية في مستودعات حفظ
الأموات، أو في أقسام المستعجلات والإنعاش، مخلفة
بذلك قتلى ومصابين بعاهات مستديمة، وأسرا مكلومة، وزوجات وأطفالا عرضة للتشرد
والضياع.. ناهيك عن تكبيد شركات التأمين خسائر مالية باهضة.
الملك.. القدوة:
إن قانون السير قد تم اعتماده، ليس ليبقى حبرا على
ورق، أو ليطبق على البعض، ويستثنى البعض، لاعتبارات الجاه والنفوذ والمال. فالجميع
سواسية أمام القانون وعند تطبيقه، ولا أحد
يعلو على القانون.
ولعل الحكمة والقدوة تأتيان من أعلى سلطة في البلاد،
الملك محمد السادس، الذي اعتاد، واعتاد المغاربة مشاهدته أو سماع أخباره، عندما يكون
خلف مقود سيارته، أن يضع حزام السلامة، وأن
يلتزم أقصى اليمين، وأن يسير بالسرعة القانونية التي تحددها علامات التشوير الطرقي،
وأن يستوقف عربته عند "الفوروج"، وأن يحترم حق الأسبقية، وممرات الراجلين
(...). فعاهل البلاد، الملك الشاب، المتشبع بقيم المواطنة وبالسلوكات المدنية، كما يحترم القانون المنظم لحركات السير والجولان،
لا يقبل أن ينتهكه أيا كان، مواطنا أو ساهرا على تطبيقه في الشارع العام، وعلى الطرقات
والأماكن العمومية والخاصة.
فأن يعمد مثلا شرطي إلى خرق قانون السير، فهذا ما قد يغضب الملك. وهنا
تستحضر الجريدة نازلة مرورية، حصلت، ذات يوم
أحد من شهر مارس 2015، في الدارالبيضاء. حيث ارتبك شرطي المرور، لحظة مرور سيارة الملك، حوالي الساعة الرابعة عصرا، عند
ملتقى شارعي غاندي وعبد الكريم الخطابي. حيث أشار بالتوقف، في خرق لقانون السير، إلى
سائق سيارة عند الضوء الأخضر، لفسح المجال بالمرور لسيارة الملك الذي كان في جولة خاصة،
احتراما لجلالته الذي كان واقفا بسيارته عند الضوء الأحمر.
وفي السياق ذاته، تداولت على نطاق واسع مواقع التواصل
الاجتماعي، صورة الملك محمد السادس، متوقفا بسيارته، شهر غشت 2016، عند ممر الراجلين،
في إحدى شوارع مدينة تطوان، لفسح المجال للراجلين
بالمرور، وذلك في احترام جلالته قانون السير.
الحموشي وقانون السير:
كانت مدونة السير وتفعيل مقتضياتها، إلى جانب تخليق
المرفق الشرطي، في صلب اهتمامات وأولويات المدير العام للأمن الوطني، عبد اللطيف الحموشي،
منذ أن تفضل جلالة الملك ووضع ثقته المولوية فيه، بتعيينه، شهر ماي 2015، على رأس جهاز
الأمن الوطني.
فخلال اجتماع أمني موسع جمعه، شهر يوليوز 2015،
بكبار المسؤولين لدى الإدارة المركزية، والمصالح
الشرطية اللاممركزة، تناول بإسهاب عبد اللطيف الحموشي مخالفات السير والجولان. حيث استعرض مساوئها، ونهى
من ثمة عن التساهل مع مخالفي السير، مؤكدا
وجوب إنجاز محضر المخالفة المروية، عند ضبطها، بغض النظر عن هوية مرتكبها وصاحب المركبة
أو معارفه أو التدخلات الي يجريها في حينه، مشددا على كون تطبيق القانون يبقى الفيصل
في التعامل. ونبه الحموشي إلى أن كل غض طرف،
يعرض صاحبه للعقوبات التأديبية المقررة قانونا.
وبالمناسبة، فقد كانت أخطاء ارتكبها بعض شرطيي المرور،
سببا في الإطاحة بمسؤولين أمنيين كبار، وعرضتهم لتنقيلات تأديبية، بمنطق "طاحت الصومعة، علقو الحجام".
احترام قانون في أوربا:
تطالعنا وسائل الإعلام في بلدان
العالم المتحضر، أن شرطة المرور قد حررت محضرا مخالفة في حق وزير أو جنيرال، جراء ارتكابه مخالفة مرورية. الأمر الذي
امتثلت له وتقبلته بصدر رحب الشخصية السامية أو الموظف الحكومي من العيار الثقيل.
قانون السير في أزمور:
إن ثمة في مدينة أزمور، على بعد 15 كيلومترا شمال
عاصمة دكالة، تأويلات خاصة لمدونة السير، رغم أن هذه المدونة جاءت واضحة في بنودها
ومقتضياتها، وفي ترجمتها على أرض الواقع. فقانون السير في مدينة الولي الصالح
"مولاي بوشعيب الرداد"، يستثنى من تطبيقه بعض المسؤولين الأمنيين. وهذا ما
أمكن الوقوف عليه بالواضح والملموس، من خلال سلوكات وممارسات بعضهم. وخير ما يمكن الاستشهاد
به، الصورتان الفوطوغرافيتان المعبرتان رفقته، واللتان تنشرهما عن قصد الجريدة. صورتان
لرئيس الدائرة الأمنية بالنيابة لدى مفوضية أزمور (عزيز عطى الله)، وهو مستوقف سيارة
خفيفة من نوع "فورد فوكيس"، مرقمة تحت: 55 – أ – 31341، في الشارع الرئيسي
بمدينة أزمور، شارع محمد الخامس، على الرصيف المطلي باللونين الأحمر والأبيض، وتحديدا
في مكان بين علامتي التشوير الطرقي لمنع الوقوف، معززتين بلوحتين مستطيلتين، كتب عليهما
باللغة الفرنسية أن هذا المكان خاص ومخصص لعربات
نقل الأموال من المؤسسات المالية قبالته (البنك الشعبي – ووكالة "وسترن يونيون"
– ووكالة "موني غرام")، كما يظهر
في الصورتين رفقته. ناهيك عن وجود وكالة "اتصالات المغرب" بالجوار، لصيقة
بالمؤسسات المالية.
وبعد أن استوقف المسؤول الأمني العربة ضدا على القانون،
في مكان يمنع فيه منعا كليا وقوف العربات، ترجل من على متنها. ووقتها، تقدم إليه شرطي
المرور (من فرقة الدراجيين)، كان يسهر وقتها، في إطار مهامه الاعتيادية، على تنظيم
حركات السير والجولان في شارع محمد الخامس. حيث قدم للمسؤول الأمني المخالف، التحية النظامية، على مرأى
رواد المقاهي، التي يغص بها أهم شارع في قلب أزمور.
والمثير حقا للغرابة والاستغراب أن دورية راكبة، تابعة للهيئة الحضرية (سيارة النجدة)، مرت عبر هذا الشارع الرئيسي، ولم
تحرك ساكنا العناصر الأمنية على متنها، عند معاينة المسؤول الأمني مستوقفا السيارة
في وضعية مخالفة لقانون السير.
وفي سياق الانتهاكات الصارخة لقانون السير، فإن
ثمة على بعد أمتار معدودة (أقل من 4 أمتار)، قبالة مقري الفرقة المحلية للشرطة القضائية
والدائرة الأمنية بمفوضية أزمور، بالطابقين السفلي والأول، وكما يظهر في الصورة رفقته،
سيارة خفيفة من نوع "بوجو 307"، مرقمة تحت: 82 – أ - 501، استوقفها ضدا على
القانون صاحبها، الذي يبدو "غير عادي"
(فوق القانون)، على أرضية مكان يتوسط ويفصل الشارع ذي الاتجاهين، شارع علال بن عبد الله، الذي طلي من جنباته باللونين
الأحمر والأبيض، تشديدا على منع وقوف العربات حتى على طوله.
والمثير أن المخالفة، المركونة ضدا على القانون،
كانت في مكان غير بعيد عن مقري المصلحتين الشرطيتين، حيث تتوقف مباشرة أمامهما الدوريات
الأمنية (سيارات النجدة وعناصر فرقة الدراجيين..)، وعلى مرأى من رجال الأمن بالزيين
الرسمي والمدني، سواء الواقفين عند مدخلي المصلحتين الأمنيتين، أو الآخذين قسطا من
الراحة في المقهيين بالجوار. حيث إن من عهد
إليهم أمر تطبيق القانون والسهر على احترامه،
هم للأسف "في حالة شرود".
مخالفات تحت المجهر:
إن ما أوردته الجريدة من حالات توثق بالواضح والملموس،
للخرق الصارخ لقانون السير، وهي ليست سوى عينة مما يحصل في مدينة أزمور، يثير الجدل
حول مصداقية مدونة السير، ونجاعة تفعيل مقتضياتها على أرض الواقع، ومدى جدوى التوجيهات
والتعليمات المديرية، الصادرة عن المدير العام للأمن الوطني، عبد اللطيف الحموشي، سيما إن كان من يعمد إلى خرقها ليسوا إلا مسؤولين
أمنيين، تدخل أجرأتها في نطاق مهامهم واختصاصاتهم
وصلاحياتهم.
فإن كان المواطن العادي قد يعذر على جهله حسن نيته،
رغم أن "لا أحد يعذر على جهله للقانون".. فما الذي قد يشفع للمسؤولين
الأمنيين بمفوضية أزمور، وعلى رأسهم المسؤول الأول بالدائرة الأمنية، الذي تحرر الضابطة
القضائية لدى المصلحة الشرطية التي يشرف على تسييرها، محاضر المخالفات، بمقتضى حالة
التلبس، وتحيلها رفقة الوثائق المسحوبة من
السائق المخالف (رخصة السياقة..)، على النيابة العامة المختصة.
وعليه، فهل بمثل هذه الممارسات اللاقانونية والسلوكات
السلبية وغير المدنية، الصادرة سواء عن المسؤولين الأمنيين، أو الدوريات الشرطية، التي
تغض الطرف عن الانتهاكات الصارخة لقانون السير في
أزمور، أو حتى من خلال إعادة تصنيف المخالفات من درجة إلى درجة أعلى، والرفع
من قيمة الغرامات الصلحية، يمكن الحد من المخالفات المرورية، ومن حوادث السير
"النوعية"، التي أصبحت في تصاعد مقلق، حسب الإحصائيات والمعطيات الرقمية،
التي تنشرها دوريا المديرية العامة للأمن الوطني ؟
القطع مع العهد البائد:
عمد المدير العام للأمن الوطني، عبد اللطيف الحموشي،
منذ أن أصبح، شهر ماي 2015، على رأس جهاز الأمن
الوطني (بعد مضي 20 شهرا)، إلى اعتماد استراتيجية جديدة، تقضي بتخليق المرفق الشرطي.
استراتيجية تم تتويجها بتغيير مظهر موظفي رجال ونساء الأمن الوطني من مختلف الهيئات
والرتب، باستبدال زيهم الرسمي، الذي سيدخل حيز التنفيذ، على الساعة السادسة من صباح
الأربعاء 11 يناير 2017. ما يوحي أن ثمة رغبة مديرية في القطع مع العهد البائد.. لكن هل
تغيير البذلة النظامية كفيل لوحده بذلك، في
غياب تغيير بعض السلوكات والممارسات البوليسية ؟ وللحديث بقية.
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة