ان المتمعن في السيرة النبوية يتبين له بان الرسول صلى الله عليه وسلم عمل على جعل الاخوة صورة عملية بين أفراد
المجتمع , وهذا نلمسه من المؤاخاة التي نهجها بين المهاجرين والانصار أثناء دخوله
المدينة, و في هذا السياق يقول هيكل في كتابه حياة محمد "فلم تكن
اقواله وحدها دعامة الدعوة الى هذا الاخاء الذي جعله من حجر الزاوية في حضارة
الاسلام بل كانت أعماله و كان مثله هو هذا الاخاء في أسمى صور كماله."[1]
و بهذا فان الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر لنا محمد علي الصالح في كتابه الرسول صلى الله عليه وسلم وتنمية الابداع من خلال هذه المؤاخاة بين
المهاجرين والأنصار "رفع المجتمع الى التطبيق العملي "[2], لانه كما قال
محمد الغزالي في كتابه فقه السيرة ,جعل شعار الاخوة "عقدا نافذا , لا لفظا
فارغا. وعملا يرتبط بالدماء والاموال لا تحية تثرتر بها الألسنة ولا يقوم لها
أثر".[3]
ثم
ان الناظر ان المتأمل في السيرة النبوية لابن كثير يجده ذكر لنا الطريقة التي أخى بها الرسول صلى الله عليه وسلم
بين المهاجرين والأنصار "قال محمد
ابن اسحاق : وأخى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ’ فقال فيما بلغنا ..."تاخو في الله
أخوين أخوين ثم اخذ بيد علي بن أبي طالب فقال هذا أخي ...."[4].
وهكذا فمن
خلال هذا القول يتبين لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الاخوة
حقيقة عملية: لكونه صلى الله عليه وسلم جعل
هذه الاخوة كما قال د/ علي محمد
الصلابي في كتابه السيرة النبوية عرض أحداث وتحليل وقائع "مسؤولية حقيقية
تشيع بين هؤلاء الاخوة "[5]
, حيث قال تاخو في الله أخوين أخوين".
لقد كانت أخوة لا مثيل لها ترتبت
عنها مجموعة من الاثار تمثلت كما ورد في كتاب المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
(نظامها أهدافها أثارها) د محمد صالح جواد مهدي في"حل الأزمة التي اجتاحت المهاجرين ريثما
يستعيدوا مقدرتهم المادية و يلموا شعتهم المادي و يلموا شعتهم المعنوي "[6].
كما أنها تمثلت في نشر الالفة وروح التعاون بين المسلمين و في هذا السياق يؤكد لنا ذ/فتح الله كولن بأن
الرسول صلى الله عليه وسلم قد " نفخ في ارواحهم روح أصرة أخوة اقوى من أخوة النسب "[7].و
الحديث التالي الذي ذكره ابن كثير في سيرته يوضح مرة أخرى اهتمام الرسول صلى الله
عليه وسلم بهذه الاخوة : "قال ...
ان اخوانكم قد تركوا الأموال و الأولاد وخرجوا اليكم "فقالوا : "أموالنا بيننا قطائع.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "او غير ذلك " قالوا وما ذاك يارسول
الله ؟ قال هم قوم لا يعرفون العمل , فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر قالوا نعم"[8].
ومما ينبغي الاشارة اليه بأن الرسول صلى الله
عليه وسلم عمل على تثبيت مبدأ المؤخاة بزرع روح العقيدة في نفوس المهاجرين
والانصار, وهذا يفسر النجاح الكبير لهذه الخطوة المحمدية . وبين أن
الايمان لا يكتمل حتى نحب لاخواننا مانحبه لأنفسنا .و في هذا السياق يؤكد محمد
هيكل هذا الامر بقوله "وحجر أساس هذا الاخاء هو الاخاء الانساني اخاء يجعل المرء لا يكمل ايمانه حتى يحب لأخيه
ما يحبه لنفسه وحتى يصل به هذا الاخاء الى غاية البر و الرحمة من غير ضعف ولا
استكالة "[9].
1) صور من بعض
مظاهر الامن لهذه المؤخاة :
ان الناظر للأمن المترتب عن هذه المؤاخاة يتبين له انها حققت أمن بكل انواعه ,
والدليل على ذلك شهادة المهاجرين بذلك كما ورد في سيرة ابن كثير : مارواه
الامام احمد عن أنس بن مالك قال :قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا
عليهم أحسن مواساة في قليل , ولا أحسن بذل من كثير , لقد كفونا المؤونة واشركونا
في المهنأ, حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ..."[10]. فالحديث اذن يسلط الضوء على امن نفسي تدل عليه عبارة
" أحسن مواساة في قليل".كما أنه يدلنا على امن غذائي من خلال
العبارة التالية "لقد كفونا
المؤونة". بالاضافة الى أمن مكاني يدل
عليه اللفظ الذي يدل عليه " واشركونا في المهنأ".
و فيما يلي بعض الأمثلة
لأنواع الأمن المتحقق من خلال هذه الاخوة :
-
المؤاخاة و تحقق الأمن الاقتصادي و الأمن
الغذائي :
مما ينبغي الاشارة اليه أنه كان من بين
أهم اهداف هذه المؤاخاة :معالجة المشاكل الاقتصادية وسد النقص الحاصل لدى الصحابة في هذا المجال. لأنهم تركوا أموالهم وأعمالهم
وكل ممتلكاتهم في مكة.
وجدير بالذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع أن يحقق لهم أمن اقتصادي
عن طريق سياسة تقاسم الأموال والاعمال والثمرات مع المهاجرين . حيث طلبت الانصار من رسول صلى الله عليه و سلم"يا
رسول لله اقسم بيننا وبينهم النخل .قال لا قال :"تكفونا المؤونة و تشركون في الثمر
" قالوا سمعنا و أطعنا "[11]. وفي هذا السياق يصف لنا ذ/ فتح الله كولن هذه
السياسة "كانت هذه الأخوة قوية
الى درجة أن الانصار قسموا اموالهم قسمين و أعطوا قسما منها الى المهاجرين[12] ." ليس هذا
فقط بل نجد أن البعض منهم أصبح يؤثر غيره
على نفسه, كما جاء في سيرة ابن كثير أن
" سعيد بن الربيع قال قال لعبد الرحمان بن عفو عندما اخى النبي بينهما"انا أكثر أهل المدينة , فانظر شطر مالي فخذه , وتحتي امرأتان فانظر
أيهما أعجب اليك حتى أطلقها فقال عبد الرحمان بارك الله لك في أهلك ومالك
دلوني على السوق ...:"[13].
ان هذا
السلوك من الانصار أدى الى بث العزيمة في
نفوس المهاجرين على الذهاب الى السوق و البحث عن عمل للزواج من دون أن
يتسببوا في اي حرج للأنصار.
-
المؤاخاة وتحقق الأمن اجتماعي :
ان المتأمل في الامن المترتب عن هذه الأخوة يتبين له أنها : مكنت من حل مشاكل المهاجرين الذين فارقوا
الأهل و الأحباب و المسكن والاموال "و في هذا السياق نجد كتاب الادارة في عهد الرسول صلى
الله عليه وسلم يؤكد هذا الأمر" و قد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحل بها الأزمة
المعيشية التي اجتاحت المهاجرين بعد مغادرتهم مكة و ينظم علاقاتهم مع اخوانهم من
الانصار ريثما يستعيد المهاجرون قدرتخم المالية ويتمكنون من بلوغ مستوى الكفاية
الاجتماعية "[14].
وفي هذا الصدد
يقول د/احمد ابراهيم الشريف في كتابه الدولة الاسلامية الاولى "ان هذا
الاجراء كان ضروريا لتفادي وقوع المهاجرين في مشاكل .. اجتماعية خطيرة و لا سيما
أنهم يتقنون لتجارة في حين كانت المدينة دار صناعة وزراعة "[15].
تجلى أيضا هذا الأمن الاجتماعي في
كون هذه الأخوة ساعدت في ايواء المهاجرين
و مساعدتهم وتقديم الدعم لهم ومواساتهم
.لأن الانصار كما قال د/ محمد صالح جواد مهدي في كتابه المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
(نظامها أهدافها أثارها) فتحوا "قلوبهم قبل أبوابهم وساهموا في حل
مشكلة السكن ...فلم يكتفوا بمجرد ايوائهم بل وهبوا كل فضل في خططهم من أجل اسكان
اخوانهم المهاجرين واشعارهم بالامتلاك و الاستقلال"[16].
وفتحت لهم الباب لتأسيس أسر بعدما تركوا
مساكنهم و أهلهم في مكة . ان المتأمل في
كتاب نظام الادارة في الاسلام يتبين له "أنه لفت الانظار الى ان هذه الأخوة "كانت
ضرورية لاذهاب الوحشة والغربة عن المهاجرين ليشد بعضهم بعضا و لا سيما أن
المهاجرين تركوا كل المقومات الاساسية للحياة في مكة ".[17]
و في نفس السياق نجد السهيلي في كتابه الروض الانف يؤكد لنا هذا الأمر
"اخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة ويؤنسهم
من مفارقة الأهل والعشيرة و يشد أزر بعضهم ببعض "[18] لذلك كما أشار محمد الغزالي في كتابه فقه السيرة "
كانت عواطف الايثار و المواساة و المؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع
الجديد بأروع الأمثال "[19].
ان المتمعن لتجليات الأمن الاجتماعي الناتج عن المؤاخاة يتبين
له أنها مكنت ايضا من انتشار و ترسيخ
مجموعة من القيم , نذكر من
بينها مايلي:
§ أنها أظهرت
لنا صورا جديدة من أنواع التعاون والتكافل الاجتماعي و تطبيق عملي للقيم الاسلامية .
§ اسقطت الفوارق
الاجتماعية و أذابت النظام القبلي الجاهلي. وفي هذا الصدد نجد د/ محمد صالح جواد
مهدي في كتابه المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار (نظامها أهدافها أثارها) يؤكد لنا هذا الأمر , " اذا تعد المؤاخاة اشعارا متينا بالمساواة و
الوحدة بين الجماعة المؤمنة عمليا , فقد قضت على الثغرات السابقة وذلك بجمع القلوب
"[20],
لأنها ساوت بين الفقير و الغني , الأسود والأبيض ,المهاجر والانصاري .
§
مكنت
من نبذ الفرقة و توحيد الامة , و في هذا السياق
نجد كتاب السيرة النبوية عرض أحداث و تحليل وقائع يؤكد لنا هذا الأمر
"أسهم نظام المؤاخاة في ربط الأمة بعضها ببعض "[21].
لأن هذا المنهج النبوىي أدى الى التأليف بين العقول والقلوب.كما انه عمل على
تنطيم العلاقات لتتحرك بروح الاخوة , وكما أشار د/ علي محمد الصلابي "لكي يتلاحم المجتمع المسلم و يتالف و
تتضح معالم تكوينه الجديد"[22].
§ تجلى لنا أيضا
مظهر الأمن الاجتماعي للمؤاخاة في نظام الثوارت الذي أفضى الى نتائج اجتماعية و
اقتصادية ونفسية , ساهمت في نشر الامن و الاستقرار .
§ المؤخاة وتحقق
الأمن النفسي:
مما لا شك فيه أن هذا الاجراء الاخوي أدى الى حصول
الاطمئنان و الارتياح في نفوس المهاجرين. واذهب عنهم وحشة الغربة و فرقة الاهل
والمال والمسكن والعمل . كما ساهم في بعث
السكينة و الأمن في نفوس الانصار. لان هذه المؤخاة كانت مناسبة لهم للامتثال لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم .
كما انها كانت سببا في ذكرهم و الثناء عليهم
من فوق سبع سماوات .هذا من جهة , ومن جهة أخرى ان الامن النفسي الذي
تحققللأفراد أثناء هذه الأخوة هو ناتج عن روح العقيدة التي نسجت بها هذه الأخوة
النبوية .
خلاصة :
من خلال ما سبق يتبين لنا أن مبدأ المؤاخاة ساهم في نشر الأمن بكل أنواعه , واشاعة
روح الوحدة والأخوة والتعاون بين أفراد المجتمع ثم القضاء على جميع المشاكل المترتبة عن الهجرة. وكما أكد لنا كتاب
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار (نظامها أهدافها أثارها) د محمد صالح جواد مهدي
أنه عالجها "ماديا ومعنويا وعاطفيا ونفسيا ومن كل أنحائها وجوانبها المختلفة
"[23]
. مما أدى الى اطمئنان الرسول صلى الله عليه وسلم " الى وحدة المسلمين
بهذه المؤاخاة و هي لا ريب حكمة سياسية تدلة على سلامة تقدير و بعد نظر ".[24]
امتاز بها رسولنا الكريم .
و اذا نظرنا الى الواقع نجد أننا نتعامل مع هذا الحدث العظيم بأنه فترة زمنية من السيرة النبوية انتهت, ولا نكاد نسلط الضوء عليه. في حين لو أننا أحسنا استغلال هذه البدرة التي زرعها الرسول صلى الله عليه وسلم , لحصلنا من خلالها على مناهج مهمة وحلول للأمة الانسانية تعود عليها بالأمن والاستقرار .
[2] الرسول
صلى الله عليه وسلم وتنمية الابداع من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار, مجلة
كلية العلوم الاسلامية , العدد 15/2, 1435ه محمد علي الصالح ص 5
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة