محلات المقاهي
تزداد كل يوم، فلن يخلو شارع من تواجد مقهى، حتى أنك بمجرد
الخروج من بيتك، تسحبك قدماك إلى ارتيادها، لكونها أصبحت فضاء اعتياديا يؤتت
المجال الترابي، تلكم رقعة مكانية تستقبل الناس، ليرتشفوا فناجين وكؤوس من القهوة،
وليستنشقوا عطرها الأخاذ،المنبعث من سحر حبات بنها الآتية من البلاد البعيدة، بما
أن موطنها الأصلي يقبع في البرازيل.
يبدو أن ظاهرة
المقاهي، هي بالطبع دخيلة عن المجتمع المغربي، ولم تزدهر إلا مؤخرا بفعل انفتاحه
على العالم، وخاصة مع رسو المستعمر الفرنسي المحمل بثقافة المطاعم والفضاءات
الترفيهية المخصصة لشرب الخمر.
كان اجتماع الناس
قديما، يقتصر على المساجد لأداء الصلوات، وفي الأسواق الأسبوعية والمحلات
التجارية، لكن المقهى فرض نفسه كمنتوج وفضاء لتقديم خدمة ترفيهية تروح عن النفس
باستهلاك قهوة البن والشاي وبعض المشروبات.
لقد تناسلتأعداد
المقاهي بشكل كبير في المدن والحواضر المغربية، مسألة يمكن تفسيرها في تفضيل كثير
من المستثمرين المراهنة على ذلك المجال كاستثمار مربح بدرجة كبيرة، بشكل يضمنون به
أموالهم، لتفادي أية خسارة، خاصة وأن العقلية الاقتصادية السائدة محدودة في
خياراتها وأفكارها لا تستند على الفكر المغامر، الذي يمتاز به الاقتصاد المتقدم
القائم على تنويع الاستثمارات في الأنشطة الاقتصادية، فضلا عن رواج تجارتها في مجتمع
تنهكه البطالة، ويضعف فيه معدل عدد ساعات العمل اليومية الحقيقية الفعلية خصوصا في
قطاعات الوظيفة العمومية.
انتشار المقاهي في
الأماكن والأحياء ساهم في احتلالهاللمساحات العموميةوأرصفة الملك العامطمعا في
زيادة أنشطتها وأرباحها، مما أخل بجمالية الفضاء الحضري، وعرقل تنقل الراجلين
المجبرين على النزول للطرقات المخصصة لمرور السيارات، كما أجج من تعاظم نسبة
الضجيج والضوضاء التي تحدثها حركة الزبناء وحديثهم، وأصوات شاشات التلفاز لمتابعة
المباريات وما تخلفه من صراخ للمشاهدين، مما يقلق راحة السكان المجاورين لها.
من جهة أخرى، لم
يعد فضاء المقهى يكتفي بتقديم منتوج احتساء القهوة والشاي والمشروبات فقط، بل تعداه
إلى ممارسة أنشطة مهنية واقتصادية واجتماعية، حتى أن بعضها دخل إلى عوالم التخصص،
فهناك مقاهي صارتمتخصصةفي القمار، و أخرى لتدخين الشيشة، فيما بعضها تخصص
فياستقبالتلاميذ وطلبة المدراس والجامعات، نظرالقلة المكتبات وحتى إن وجدت
لا تفتح أبوبها في جميع الأوقات، كما تحولت إلى مكان لعقد الصفقات والمعاملات
التجارية، وبالتالي تزدهر أرصفتها بجلوس عدد كبير من السماسرة على اختلاف أنواعهم
وفي كل المجالات.
المقاهي إذن هي
بمثابة بورصة لقيم المجتمع المغربي، حيث تتداول فيهاأخبار الاقتصاد والسياسة
والرياضة والثقافة، بل حتى أن جزء مهم من الرأي العام يتشكل من داخلها، كما تزدهر
الاشاعةوتتفاعل فيها الأفكار لتأخذ مجالا أكثر اتساعا داخل المجتمع.
إن التمثلات المجتمعية
في ظل الواقع المغربي، تَرْبِطُ شرب القهوة بتدخين السجائر، فتصبح المقهى بذلك مكانا
للتدخين بامتياز، على الرغم من كونه فضاء عموميا يمنع فيه التدخين بقوة القانون، فتصيربذلكمشتلا
يساهم في تفريخ المدخنين وتبني فعل التدخين، وهو شيء يفضي إلى مضاعفات صحية خطيرة
سواء بالنسبة للمدخنين أو لغير المدخنين المتحلقين بقربهم.
يمتد تأثير مقهنة
المجتمع المغربي على سلوكيات الأفراد والجماعات، فتقضي نسبة مهمة من المواطنين في
إهدار أوقاتهم، جالسة على كراسي المقاهي، شيء يعزز الكسل والخمول وتعطيل القدرات
العقلية للأفراد، وبالتالي التأثيرات السلبية على الانتاج والنمو الاقتصادي.
لكن أمكننا القول،
بأن الطبيعة لا تحب الفراغ، فقلة وغياب وسائل الترفيه والتثقيف، و الصعوبات التي
تواجه الدولة في تنمية التشغيل وتشجيع الاستثمار، يجعل مجموعة من الشباب قبلة
للبطالة، فيفضل الهروب للمقاهي على المكوث في المنازل، التي في كثير من الأحيان لا
تتوفر فيها شروط الراحة والسكينة، نظرا لضيق مساحتها التي يتم تقاسمها مع مجموعة
من أفراد العائلة، وهي بذلك مكان للنوم ليس إلا.
من جانب آخر، ولوجية
المقاهي، مازالت بعيدة عن التأطير القانوني، ففضاءاتها مفتوحة للكبير والصغير،
بدون حسيب ولا رقيب، في غياب تحديد سن معينة لولوجها، وتسطير وتصنيف نوع أنشطتها
وخدماتها، وغموض أهدافها.
إن المتأمل بعمق
لتداعيات مقهنة المجتمع على نطاق واسع، على الرغم من غياب الدراسات العلمية
الدقيقة حول هذا الموضوع، إلا أننا نجزم أن سلبياتها تفوق بكثير إيجابياتها،
فانتشارها الواسع بالأحياء السكنية، يربي لدى الأجيال خصوصا الأطفال منهم والشباب
سلوكيات تدخين السجائر والشيشة والمخدرات ، وألعاب الحظ أو القمار، و كذا الادمان
على مشاهدة مباريات كرة القدم، واستنزاف وقت الآباء وأموالهم في المقاهي عوض
تمضيته مع أبنائهم وأسرهم، وتكريس لمجتمع
شفاهي يغيب عنه الفعل والانتاج.
هل هي إذن صورة تجعلنا نتساءل، حول إمكانية التفكير في تدخل الجهات المسؤولة ومعها المجتمع الساعي إلى تحقيق المصلحة والمنفعة العامة، من أجل تقنين منح الرخص لبناء المقاهي في الشوارع والأحياء السكنية، وكذا بجوار المؤسسات التعليمية، حتى يتم وقف نزيف تفريخ أفراد بأنماط سلوكية سلبية بعيدة كل البعد عن سبل التنمية العقلية والفكرية والبدنية والاجتماعية والاقتصادية للإنسان المغربي.
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة