الزمامرة : الموت القادم من الطريق السيار
الزمامرة : الموت القادم من الطريق السيار

على هضبة خصبة معطاء ، تتربع مدينة الزما مرة مشرئبة الهامة نحو الآفاق الأرجوانية الفسيحة ، متطلعة بشموخ وكبرياء نحو هدير قطار التنمية القادم من الشمال . مدينة كتبت تاريخا مشرقا وضاء وهي تقاوم المستعمر،ليستمر صمودها وهي تقاوم النسيان والتهميش ، وتناهض ، بعزة نفس معهودة فيها ، أساطيل الفساد المتكالبة عليها . كانت عبر التاريخ ، بسخائها الدكالي الماتح من الكرم الحاتمي ، قبلة للطامعين والمستبدين الذين يسيل لعابهم أمام طبقها الشهي المغري بالافتراس . لست أرثي مدينتي وأحياءها التائهة في عوالم النسيان فحسب ولكنني أرمي الطرف بعيدا في الآفاق ، وسحيقا بين ثنايا أعماقها المتداخلة لأدق ناقوس الخطر والموت القادمين من حيث ندري ولا ندري. مدينة كانت خصوبتها التناسلية وسخاؤها وعطاؤها مصدر تعاستها وفقرها وتناقضاتها الفاحشة بين من يملكون الحسابات البنكية الثقيلة وبين مستضعفين لا يملكون أدنى مقومات الإنسانية والآدمية ، غارقين في العوز من هاماتهم حتى أخمص أقدامهم ، لا يتم التفكير فيهم إلا إبان الحملات الانتخابية حيث يخضعون لنمط السوق عرضا وطلبا بمنطق ميركانتيلي ، يمتح من انتخابات فاسدة يلعب فيها المال الحرام قطب الرحى في حسم النتائج ورسم معالم الخريطة السياسية بالمدينة.

 

غالبا ما يعتبر بناء طريق سيار إنجازا هائلا في الحياة الإقتصادية لأية مدينة ، من حيث كونه حلقة أساسية ومحورية في مسلسل تشييد بنيات تحتية ، تضخ دماء جديدة تنعش شريان الإقتصاد الوطني. لكن التأثيرات الجانبية السلبية لمشروع ضخم وعملاق كالطريق السيار الرابط بين الجديدة وآسفي ستلقي بظلالها على اقتصاديات بعض المدن الفتية ذات الإقتصاد الناشيء كانت تستفيد إلى وقت قريب من تموقعها على الطريق الوطنية رقم 1 الرابطة بين البيضاء واكادير.

 

ومن خلال هذا المقال ، يهمني في هذا المقام أن أرصد قدر الإمكان التبعات التي ستعقب إحداث مشروع الطريق السيارالرابط بين الجديدة وآسفي ، والذي تتقدم فيه الاشغال بوثيرة سريعة ، على حياة مدينة تشكل قلبا اقتصاديا نابضا بالحيوية والنشاط كمدينة الزمامرة التواقة إلى الانعتاق من شرنقة موت قادم لا محالة بدأ يدب بين أحشائها بخبث خفي وصامت بصبيب جارف وكاسح سيأتي على الأخضر واليابس ، ويرمي إلى خنق نفس اقتصادي أوشك على التشكل في تمظهرات حياة تلفظ أنفاس الوداع والرحيل ، وتستغيث بملء صوتها الجاهوري لعلها تخترق وقر الآذان الصماء ، وتحظى باهتمام النظرات الشاردة التائهة وراء سراب الوهم والمنهمكة في إشباع نهمها ونزواتها المتغطرسة من البورجوازية المتعفنة والمتخنة بمراكمة المصالح الشخصية ، واللاهثة وراء تحسين سيولة حساباتها الشخصية ، لا يفضحها إلا لعاب الجشع والتعطش المرضي لامتصاص مزيد من دماء أبناء الشعب من المستضعفين والمغلوبين على أمرهم. لست رجل اقتصاد يدعي الحنكة ، ولا أملك مفاتيح التحليل الإقتصادي ، ولا أنا سابر لأغوار المستقبليات يدعي الدراية والفهم ، إنما تعلمت من الحياة تثبيت أقدامي حيث أقف والإشرئباب نحو الآفاق الرحبة البعيدة لأرقب السحب الداكنة المحملة بشحنات العواصف والرعود ، لعلنا ننذر بشؤم قادم أو مصيبة أكيدة، ومن يدري قد نترصد نسائم عليلة ، وقطرات سليلة من النبع الزلال تنعش أنفاسنا المنهكة والمخنوقة ؟ وفي ظل هذه التحولات والمتغيرات ، يغط مسؤولونا في سبات نوم عميق ولا يولون كبير أهمية لما يقع حواليهم من مستجدات تقتضي اليقظة والسعي الحثيث لانتشال مدينة من الغرق المحقق . فغياب استراتيجية تنموية واضحة الرؤى والمعالم من خلال تطلع استشرافي للمستقبل الجميل والباسم ، والتخبط في وحل الارتجالية والقرارات المزاجية ، يرهن مستقبل المدينة ويجعلها في كف عفريت .

 

فكيف يعقل أن نتفرج على مصير مدينة تشكل الحاضرة الثانية في إقليم سيدي بنور ونحن نرى يوما بعد آخر قبرا لها يحفر؟ وما هذا النمط التنموي الأعرج الذي يغرف من مدرسة تعتمد على بهارات الإبهار والإغراق في المساحيق التجميلية الخادعة حيث تتوارى خلفها عيوب شتى؟ وما هي المناعة التنموية التي وفرناها لهذه المدينة لتصمد وتستمر بوهج وألق ؟ وأين هي الجاذبية التي ستجعل من مستعمل للطريق السيار لا يقاوم رغبة التعريج على المدينة ؟ وهل بوأد الحركية التجارية بالمدينة ومحاصرة تجارها وحرفييها ستتمكن هذه المدينة من النهوض والالتحاق بركب النماء والتطور ؟ وهل بإطلاق العنان لتماسيح الإسمنت والحديد من المضاربين العقاريين ، ومحاصرة أحلام المغلوبين في الحصول على سكن كريم سنضمن تثبيت السكان واستقرارهم بهذه المدينة ؟ ماذا قدمنا مثلا لصناع هياكل الشاحنات التي تشكل علامة لصناعة قيد التشكل يقصدها أرباب الشاحنات من كل حدب وصوب ؟

 

إلى متى سنغرق هذه المدينة في الحدائق الغناء والتي تكلفنا الملايير ،وتحتاج الملايين لصيانتها ونترك هامشا مشاريع منتجة تعود بالنفع على المدينة وسكانها ؟ هذه فقط مجرد أسئلة تعتمل في كياني قررت تقاسم قلقها مع القارئ الكريم في انتظار رسم معالم استراتيجية تنموية واضحة بالمدينة تمتح من قيم المسؤولية والنزاهة والاستقامة والديمقراطية التشاركية والانصات لنبض الشعب .

الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة