لم يعد المركز الاستشفائي الإقليمي بالجديدة (مستشفى محمد الخامس سابقا)، قادرا على استيعاب جحافل المرضى، وضحايا الحوادث العرضية والاعتداءات الإجرامية، وجثت الموتى والقتلى، الذين يتوافدون عليه من تراب إقليمي الجديدة وسيدي بنور، أو الذين يحيلهم عليه المستشفى الإقليمي بسيدي بنور، والمستشفيان المحليان بأزمور والزمامرة.
فقد بات عاجزا عن توفير خدمات صحية "نوعية"، تكون في مستوى التطلعات والانتظارات، تليق بالمغاربة، وبمغرب الألفية الثالثة، نظرا لهيكلته المعمارية وهندسة بنيته المتجاوزة، وبنايته القديمة التي تعود إلى سنة 1929، عندما كانت الجديدة تجمعا سكنيا محدودا، ترابيا وجغرافيا وديمغرافيا. ناهيك عن ضعف تجهيزاته الطبية والصحية، ومعداته اللوجستية، وقلة موارده البشرية وأطقمه الصحية، سيما الممرضين الذين سيحال العديد منهم على التقاعد.
هذا، وقد أصبح مستشفى محمد الخامس يعرف، منذ ثمانينيات القرن الماضي، اكتظاظا واختناقا، تفاقمت حدتهما مع تعاقب السنين، في ظل النمو الديمغرافي المضطرد، الذي مافتئت تعرفه ساكنة الإقليم، أو بالأحرى الإقليمين (إقليمي الجديدة وسيدي بنور)، وكذا، التوسع العمراني والمعماري "الأخطبوطي"، الذي تشهده عاصمة دكالة، التي أضحت مهيأة لأن تكون ثاني قطب اقتصادي في المغرب، بعد العاصمة الاقتصادية، الدارالبيضاء.
فبالرجوع إلى أرشيف صور مستشفى محمد الخامس، والنبش في تاريخه وذاكرته، يبدو الفرق شاسعا بين حالته ووضعيته الأصليتين، وما آل إليه، إثر "العبث" والتوسيعات العشوائية، والتغييرات الارتجالية التي طرأت، منذ سنة 1982، على معالمه وهندسته المعمارية، في عهد مدراء تعاقبوا على تدبير شؤونه الصحية والإدارية. حيث إنهم لم يمروا مرور الكرام، أو بالأحرى لم يمروا "نكرات". فقد بصموا هيكلة وهندسة البنية التحتية لهذا المستشفى، ببصماتهم التي ستظل شاهدة على "عبقريتهم" التي تفتقت، ليس في مجال تخصصاتهم واختصاصاتهم (التدبير الصحي والإداري)، وإنما في مجال "الهندسة"، الذي "تطفلوا" عليه، والذي لا يربطهم به سوى "لخير ولحسان"، على حد التعبير العامي.
يتواجد المركز الاستشفائي الإقليمي بالجديدة، في حي شعبي (بلاطو)، شوارعه ضيقة ومختنقة، لم تعد تستوعب الكم الهائل والمتزايد من العربات. ما بات يعرقل حركات السير والمرور الدءوبة ليل-نهار، والتي تتضاعف خلال فصل الصيف، والمناسبات والعطل المدرسية والدينية. وضع أصبح يعيق ولوجية سيارات الإسعاف، الجماعية أو الخاصة أو التابعة للوقاية المدنية، التي تضطر، رغم أحقيتها وأسبقيتها في المرور، للتوقف باستمرار، والانتظار طويلا. كما تضطر أحيانا لتغيير مساراتها وممراتها. ما قد يكون سببا في وفيات طارئة، تقع على متن بعض سيارات الإسعاف تلك، قبل ولوجها إلى المستشفى، وأخذ المرضى أو المصابين، حسب حالاتهم الصحية، إلى قسم المستعجلات، أو "بلوك" العمليات الجراحية، أو قسم الإنعاش وما جاوره من أجنحة صحية متخصصة.
وسنتوقف بالمناسبة عند أقسام هذا المركز الاستشفائي، وفي طليعتها قسم المستعجلات، الذي يتوافد عليه في اليوم، أكثر من 400 حالة مرضية أو استعجالية، دون احتساب الحالات غير المدرجة في سجلات القسم، ومصلحة الاستقبال والقبول. فطبيعة بناية وهندسة هذا القسم الصحي، وقاعاته "المتخصصة"، بما فيها قاعة الفحص الطبي، وقاعة العلاج، وقاعة الاستشفاء، تجعل منه فضاء مكشوفا ومفتوحا في وجه مرتاديه، من مرضى ومصابين وذويهم، وعموم المواطنين، تعمه الفوضى والتسيب، وغالبا ما يكون مسرحا للصراع، يستعرض على حلبته، السكارى والمنحرفون و"الشماكريا"، عضلاتهم، رغم أن هذا القسم يقع تحت المراقبة الأمنية.
ويشتغل بالتناوب، أطباء المستعجلات، داخل هذا القسم، في أجواء غير لائقة، لا تراعى فيه وفيها ظروف العلاج والتطبيب. حيث إن قاعة الفحص قد جرى فصلها بلوحات خشبية، أعطت لهذه "الصالة" هندسة "عشوائية"، لا مثيل لها إلا في مستشفيات دول العالم الثالث، أو تلك المقامة في الغابة الاستوائية، أو وسط الأدغال الأفريقية. وبالمناسبة، فإن ظروف "العلاج" هذه، تعرض حميمية المرضى وخصوصياتهم، للانتهاك.
ويفتقر قسم المستعجلات إلى التجهيزات والمعدات الطبية. ما يجعل منه، أو يجعله عبارة عن "مستوصف"، أو أدنى من هذا التشبيه أو التوصيف. وتزيد الفوضى التي تعم ولوجية سيارات الإسعاف، وسيارات النجدة والتدخل الأمني، والعربات الخاصة، إلى المستشفى، وتوقفها الفوضوي لفترات طويلة، أمام مدخل قسم المستعجلات، قبالة مصلحة الاستقبال والقبول، (تزيد) من استفحال تأزم الوضع داخل قسم المستعجلات، وتعذر الولوج والوصول إلى جناح العمليات الجراحية، وقسم الإنعاش، وجراحة النساء والرجال والأطفال، بالطابقين الأول والثاني، وكذا، إلى قسم "الدياليز"، وقسم أمراض النساء والتوليد، ومصلحة الفحص بالأشعة، وقسم جراحة العظام، ومصلحة طب العيون، وطب الأذن والأنف والحنجرة، ومصلحة القلب والشرايين، ومستودع حفظ الأموات.
وتنضاف إلى ذلك، الفوضى العارمة التي تعم زنقة الدكتور "غو" (Docteur ROUX)، التي لا يتعدى عرضها 4 أمتار، والتي تؤدي إلى المدخل الرئيسي الوحيد للمركز الاستشفائي الإقليمي. فهذه الزنقة، يسود فيها التسيب الذي تحدثه، دون حسيب أو رقيب، سيارات الإسعاف الخاصة، التي تنتمي إلى قطاع غير مهيكل، يشوب تدبير شؤونه، الغموض و"السيبة". فهي (سيارات الإسعاف) تحتل الرصيف من الجهتين، وتعرقل حركات السير والمرور، والولوجية إلى المستشفى.
أما قسم الإنعاش، الذي ليس له من هذه التسمية التي يحملها إلا الاسم، فطاقته الاستيعابية لا تتجاوز حوالي 18 سريرا، مشدودا إلى قارورات "السيروم"، دون تجهيزات ومعدات طبية وصحية. وقد بات هذا القسم في حاجة ماسة إلى أن يخضع ل"الإنعاش"، و"العناية المركزة". ويستقبل المرضى والمصابين، من مدينة الجديدة وإقليمها، ومن المستشفى المحلي بأزمور، وكذا، من مدينة سيدي بنور وإقليمها، ومن مستشفييها الإقليمي، والمحلي بالزمامرة.
والطامة الكبرى أن المصعد المؤدي إلى قسم الإنعاش، وأجنحة جراحة النساء والرجال والأطفال، بالطابقين الأول والثاني، معطل دائما، على غرار عادته. ما يجعل المصابين والمرضى في حالة صحية حرجة، يضطرون للصعود واقفين على أقدامهم، أو محمولين على متن "برونكار"، في ظروف عير ملائمة، تزيد في تفاقم حالاتهم الصحية، وقد تشكل خطرا على حياتهم.
ويزيد من حدة معاناة المرضى، طريحي أسرة قسم الإنعاش وما جاوره، منهم من هم في غيبوبة متقدمة، أو يحتضرون، الضوضاء الذي ينبعث من قاعة للأفراح، كائنة بالجوار. حيث يتواصل فيها حتى شروق الشمس، "الشطيح والرديح" على إيقاع أصوات الغناء والموسيقى الصاخبة (!!).
وتجدر الإشارة إلى أن جل الوفيات التي يعرفها المركز الاستشفائي الإقليمي، والذي ما زال يعرف بتسميته الأصلية "مستشفى محمد الخامس"، تحدث داخل قسم الإنعاش. وبالمناسبة، فقد بلغ عدد الوفيات في هذا المستشفى، خلال النصف الأول من السنة الجارية (2013)، 325 وفاة.
وتعاني جميع الأقسام الصحية في هذا المستشفى، من نقص حاد في الإمكانيات والتجهيزات الطبية والصحية، والمعدات اللوجستية، ومن محدودية طاقاتها السريرية والاستيعابية، كما الشأن بالنسبة لقسم أمراض النساء والتوليد، والذي حطم، رغم تلك الإكراهات والمعيقات، الرقم القياسي في الولادات، التي بلغت برسم السنة الفارطة (2012)، 9800 ولادة جديدة.
للإشارة، فإن العديد من النساء الحوامل، اللواتي يتقاطرن على مستشفى محمد الخامس، هن من خارج تراب إقليم الجديدة، نسبة مرتفعة منهن من إقليم سيدي بنور. وتصرح سيدة تسمى (حليمة المعزوزي) أن المستشفى المحلي بالزمامرة أحالها أخيرا على قسم الولادة بالجديدة، باعتبار أن حالتها وحملها يستدعيان خضوعها لعملية قيصرية. غير أنها وضعت مولودها بطريقة طبيعية، على يد الطبيب الأخصائي "جيني كولوك" (الزبيدي)، المشهود له بالكفاءات المهنية العالية. وهي الآن وصغيرها يتمتعان بصحة جيدة.
ولعل أبرز تجليات التوسيعات العشوائية والفوضوية، التي عرفها المركز الاستشفائي الإقليمي، نقل بناية مستودع حفظ الأموات، من مكانه الأصلي، وتشييده على شمال المدخل الرئيسي للمستشفى، في زاوية كائنة عند تقاطع زنقة الدكتور "غو"، وشارع بوشعيب الدكالي. مستودع استقبل من تراب إقليمي الجديدة وسيدي بنور، 538 جثة برسم سنة 2011، و465 جثة برسم سنة 2012. كما استقبل، خلال النصف الأول من السنة الجارية، 68 جثة من إقليم سيدي بنور (25 جماعة محلية، ضمنها جماعتان حضريتان)، و167 جثة من إقليم الجديدة (27 جماعة محلية، ضمنها 3 جماعات حضرية). ناهيك عن 325 جثة، من داخل مستشفى محمد الخامس، إثر وفيات حصلت جلها داخل قسم الإنعاش.
وكانت لجنة من "المجلس الوطني لحقوق الإنسان"، حلت، منذ أقل من سنة، بالمركز الاستشفائي الإقليمي بالجديدة. حيث وقفت عن كتب على واقع مستودع حفظ الأموات، وعلى حقيقة الأرقام المهولة في الوفيات (...). ومن باب المقارنة، وكذا، من المفارقات المثيرة، أن المركز الاستشفائي الإقليمي بالجديدة، استقبل برسم سنة 2012، ما مجموعه 465 جثة من خارج المستشفى. فيما استقبل مستودع حفظ الأموات البلدي بآسفي، الذي يغطي بالمناسبة جهة دكالة-عبدة برمتها، 274 جثة، برسم السنة ذاتها (2012) !!
ولنا عودة لموضوع "الوفيات والجثث ومستودع حفظ الأموات بالجديدة"، على ضوء المادة 46 من "النظام الداخلي للمستشفيات"، المنصوص عليها بمقتضى قرار وزارة الصحة رقم : 11-456، الصادر في : 6 يوليوز 2010، الذي تم نشره في الجريدة الرسمية رقم : 2-5923، بتاريخ : 7 مارس 2011.
هذا، وخرج إقليم سيدي بنور المحدث سنة 2010، من رحم تراب إقليم الجديدة. حيث بات إقليما مستقلا. غير أنه رغم توفره على مستشفى إقليمي، ومستشفى محلي بالزمامرة، فإن هاتين الوحدتين الصحيتين مازالتا تصرفان مشاكلهما الصحية، على حساب المركز الاستشفائي الإقليمي بالجديدة. حيث تحيلان مرضاهم ومصابيهم، على قسم الإنعاش بالجديدة،علما أنهما تتوفران على طبيبين اختصاصيين في الإنعاش، لكن دون قسم للإنعاش. علاوة على كونهما ما فتئتا تحيلان النساء الحوامل للوضع بالجديدة، رغم توفرهما على قسمين للولادة. ولا تستثنى في ذلك حتى جثت الموتى والقتلى، والتي تحيلانها على مستودع حفظ الأموات بمستشفى محمد الخامس، بغاية إخضاعها للتشريح الطبي أو الفحص الخارجي (...).
هذا، ويستشف بالواضح والملموس أن برنامج بناء مستشفيات محلية في إقليمي الجديدة وسيدي بنور، والذي يندرج في إطار تجسيد أهداف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، قد أعطى نتائج سلبية، عكس ما كانت وزارة الصحة خططت له، وكانت تطمح إلى تحقيقه، وكذا، عكس الغايات التي كانت حددتها، والتي تكمن نظريا أو على الورق، في الرقي بجودة التغطية الصحية، والخدمات الطبية لساكنة دكالة، وإرساء عرض صحي قريب، متوازن وموزع بشكل جيد، وكذا، إنعاش أقطاب وسيطة للتنمية الصحية، إلى جانب تعزيز اللاتمركز، والمساهمة في إنعاش التنمية المحلية، وتخفيف الضغط عن المركز الاستشفائي الإقليمي محمد الخامس في مدينة الجديدة.
إن كل هذا لم يتحقق على أرض الواقع، ولم تتحقق معه استقلالية المستشفيان المحليان بأزمور والزمامرة، والمستشفى الإقليمي بسيدي بنور. فهذه المستشفيات، المحليان بأزمور والزمامرة، والإقليمي بسيدي بنور، مافتئت تصدر إلى مستشفى محمد الخامس بالجديدة، مرضاها، وحتى جثت الموتى والقتلى، بوثيرة متزايدة، سيما في فصل الصيف، وبعض المناسبات والعطل، وكذا، مع حلول عطلة نهاية الأسبوع (ابتداء من مساء الجمعة، والسبت والأحد)،
وهكذا، تبقى الوعود "الوردية"، التي قطعها على أنفسهم، القائمون على الشأن الصحي، مجرد خطابات فضفاضة وجوفاء، يكذبها الواقع "الكارثي" للخدمات الصحية المتدنية في إقليمي الجديدة وسيدي بنور، والتي يسديها مستشفى محمد الخامس بالجديدة، والمستشفى الإقليمي بسيدي بنور، والمستشفيان المحليان بأزمور والزمامرة، والتي باتت في حاجة ماسة إلى أن تدخل بشكل استعجالي، إلى قسم الإنعاش، وأن يتم تشخيص حالاتها وأحوالها، وإسعافها قبل فوات الأوان ... قبل أن يلقى بها في مستودع حفظ الأموات.
هذا، وزاد بالمناسبة من استفحال الوضع الصحي، وتدني جودة الخدمات الصحية في المركز الاستشفائي الإقليمي بالجديدة، توقف أشغال ترميم بنايته وتأهيلها، منذ حوالي سنتين. وكانت السلطات الصحية والمتتبعون للشأن العام، والمواطنون، يعولون على تشغيل المركز الاستشفائي الإقليمي الجديد، من الجيل الجديد، وتدشينه من قبل الملك محمد السادس، خلال حلوله الثلاثاء فاتح أكتوبر 2013، بعاصمة دكالة، حيث أعطى جلالته انطلاقة فعاليات معرض الفرس الدولي، في دورته السادسة.
وكان وزير الصحة العمومية الأسبق محمد الشيخ بيد الله، وضع، السبت 7 يوليوز 2007، حجر الأساس لبناء المركز الاستشفائي الإقليمي في عاصمة دكالة، إلى جانب مستشفيين محليين بأزمور والزمامرة. وكان مقررا أن يكون هذا المركز الاستشفائي جاهزا وعمليا، شهر يوليوز 2010.
وفي الختام، نوجه من هذا المنبر الإعلامي دعوة إلى وزير الصحة العمومية (ليس من باب التعجيز) : ماذا لو قمتم بزيارة تفقدية ولو خاطفة، أو أوفدتم لجنة صحية تقوم مقامكم، إلى المركز الاستشفائي الإقليمي بالجديدة، وتحديدا إلى قسم المستعجلات، التي تولونها (أقسام المستعجلات) عناية خاصة في المغرب، وإلى قسم الإنعاش، وقسم الولادة ... وإلى مستودع حفظ الأموات، الذي لا تتعدى طاقته الاستيعابية 20 جثة ... حيث تتكدس أحيانا جثت الموتى والقتلى، داخل "ثلاجة جماعية"، في ظروف غير إنسانية، كما حدث سنة 2002، عندما احترق السجن المحلي سيدي موسى بالجديدة، وتفحمت جثت 52 معتقلا (...) ؟!
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي الجريدة